ثقافةجديد الكتبدواوين الأدباء

قراءة في رواية (مذلّون مهانون) لدوستويفسكي

في عام 1846 كان دوستويفسكي في الرابعة والعشرين من العمر، حين نشر روايته الأولى (الفقراء) وقد لقيت الرواية رواجاً عظيماً، ورحب بها أشهر النقاد الروس من التيار الثوري الديمقراطي وعلى رأسهم، ناقد روسيا الكبير فيساريون بيلينسكي (1811 ـ 1848). ودفعت هذه الرواية بدوستويفسكي إلى الصف الأول بين أدباء روسيا. ولكن رواياته القصيرة اللاحقة (الشبيه) و(ربة البيت) و(نيتوشكا نزفانوفا) و(حلم العم) و(قرية ستيبانتشيكوفو) التي صدرت كلها قبل اعتقاله عام 1849 لم تلق رواجاً كبيراً ولم تبلغ المستوى الرفيع لرواية (الفقراء).
قضى دوستويفسكي أربع سنوات في معتقل للأشغال الشاقة، وست سنوات لاحقة في الخدمة العسكرية الإجبارية في المنفى في منطقة نائية بأقاصي سيبيريا، في ظروف بالغة القسوة. ويمكن القول إن هذه السنوات العشر من عام 1849 إلى عام 1859 كانت سنوات ضائعة في حياته الأدبية، وإن كان قد استخلص منها دروساً عظيمة في الحياة. لم يكن بوسعه في تلك الظروف البائسة أن يواصل عمله الإبداعي، رغم أن خياله الخصب كان زاخراً بأفكار ومشاريع لأعمال أدبية جديدة. ولكن غيابه الطويل عن الساحة الأدبية، أدى إلى خفوت نجمه.
(مذلون مهانون) أول رواية كبيرة، متعددة الأصوات لدوستويفسكي، بعد سنوات السجن في سيبيريا وعودته من المنفى، حيث أصبح على قناعة تامة بالعزلة المأساوية للمثقفين الثوريين الروس عن الواقع، والشك في مدى قدرتهم على تحقيق الأهداف التي ينادون بها.
الفكرة الرئيسية لرواية (مذلون مهانون) شغلت بال الكاتب أكثر من ثلاث سنوات. ففي الثالث من تشرين الثاني / نوفمبر 1857 كتب دوستويفسكي من منفاه في بلدة سيميا بالاتينسكا رسالة إلى شقيقه ميخائيل يبلغه فيها عن نيته كتابة رواية عن الحياة في بطرسبورغ شبيهة برواية (الفقراء)، وأن فكرة الرواية الجديدة ستكون أفضل من روايته الأولى.
بعد عودته إلى بطرسبورغ في ربيع عام 1860 باشر دوستويفسكي على الفور كتابة روايته الجديدة. ويقول في رسالة إلى الممثلة المسرحية الكساندرا شوبرت في 3 أيار م مايو عام 1860:  (عدت إلى بطرسبورغ وأنا في غمرة الحمّى. وروايتي الجديدة هي السبب. أريد أن أكتب على نحو جيد. أشعر أن ثمة في ما أكتبه شعر. فأنا أدرك أن مستقبلي الأدبي سيتوقف على مدى نجاح روايتي الجديدة. ينبغي لي أن أواظب على كتابتها ليل نهار لمدة ثلاثة أشهر. ولكن يا لها من مكافأة حين أنجزها: الهدوء، وصفاء الذهن، والوعي بأنني قد أنجزت – عن سبق اصرار – ما أردت القيام به).
ومع ذلك فإن العمل في الرواية كان يجري على نحو بطيء. وكتب في رسالة مؤرخة في العاشر من أيلول / سبتمبر 1860 إلى صديقه الكاتب والناقد الكساندر ميليوكوف يشكو فيها من بطء العمل في الرواية: (لقد شرعت بكتابة الرواية، وما زلت لا أعرف، ماذا سيحدث، لكني قررت أن أعمل دون كلل أو ملل).
نشرت رواية (مذلون مهانون) لأول مرة، في مجلة (فريميا) عام 1861. في سبع حلقات متسلسلة تباعاً. وكانت مجلة (فريميا) وتعني بالروسية (الزمان) مجلة يصدرها دوستويفسكي بمعونة شقيقه ميخائيل. وكان الكاتب ملزماً بكتابة حلقة جديدة في وقت محدد يتزامن مع التحضير لإصدارعدد جديد من المجلة.
أهدى دوستويفسكي روايته هذه إلى شقيقه ميخائيل. وحملت الرواية عند نشرها في المجلة عنواناً فرعياً (من مذكرات كاتب فاشل). ذلك لأن دوستويفسكي بحلول الوقت الذي بدأ فيه بكتابة هذه الرواية، كان النقاد لا يتوقعون منه أن يكون قادراً على خلق رواية بمستوى روايته الأولى (الفقراء). ولكن دوستويفسكي كان مصمماً على إنجاز رواية رائعة ومميزة من أجل استعادة مكانته السابقة في الساحة الأدبية. وقد تعمّد إضافة هذا العنوان الفرعي، من أجل إثبات أنه قد تغلّب على الفشل – المزعوم من قبل النقّاد الحاقدين، والذي بات جزءاً من الماضي. والحقيقة أن كل أعمال دوستويفسكي كانت رائعة حتى ما نشر منها قبل اعتقاله.
استغرقت كتابة الرواية أكثر من عام واحد، حيث انتهى من كتابتها في التاسع من يوليو / تموز 1861، كما جاء في خاتمة الحلقة الأخيرة من الرواية المنشورة في مجلة (فريميا).
عناصر السيرة الذاتية
الراوي في (مذلون مهانون) هو ايفان بتروفيتش، الكاتب الناشئ، وهو في الوقت ذاته أحد شخوص الرواية. وما يسرده ايفان عن نفسه هو في الواقع سيرة دوستويفسكي الشاب، ونظرته إلى الحياة والوجود في هذه المرحلة من حياته، حيث يتحدث ايفان عن ظهور روايته الأولى (الفقراء) والترحيب الحار والحماسي الذي قوبل به من قبل بيلينسكي، وعلاقة ايفان بناشر كتبه. هذه الحقائق وبعض الحقائق الأخرى هي من حياة دوستويفسكي نفسه.
لم يلتزم دوستويفسكي بالخلفية الزمنية أو التأريخية لأحداث الرواية. فعلى سبيل المثال تجري أحداث الرواية في فترة لا تزيد عن سنة ونصف السنة منذ من منتصف الأربعينات، ولكن الراوي يذكر وقائع تأريخية واجتماعية وأدبية لاحقة حتى نهاية خمسينات القرن التاسع عشر. الانزياح الزمني سمح لدوستويفسكي بإنشاء عمل أدبي بتغطية أوسع من المقصود أصلاً للحياة الخاصة والعامة في روسيا في تلك الحقبة، وكذلك التعبير عن فكرة الاستمرارية في الحياة الايديولوجية والثقافية الروسية.
فاسفة المعاناة
في الصيف الماضي زرت متحف دوستويفسكي في موسكو، وأدهشني موقع المتحف. فهو يشغل زاوية صغيرة من زوايا للطابق الأرضي لستشفى كبير، كان يسمى بمستشفى الفقراء في العهد القيصري. كان والد الكاتب طبيباً في هذا المستشفى. وقد عاش دوستويفسكي هنا سنوات طفولته ومراهقته، وشاهد المرضى الفقراء المتألمين ومعاناتهم، وانطبع كل ذلك في ذاكرته إلى آخر يوم في حياته.
المعاناة الانسانية هي الموضوع الرئيسي لرواية (مذلون مهانون) ومعظم أعماله الأخرى: معاناة الفرد، ومعاناة البشرية. ومن كان قادراً على الفهم العميق لمعنى المعاناة، ووضع اليد على مصادرها، غير دوستويفسكي الذي عانى وتعذّب وتألم طوال حياته. فقد عانى من الفقر والوحدة والمرض، ومن موت أعزّ الناس عليه (والدته وابنته)، وخيانة الأصدقاء، وحسد الكتّاب، وظلم النقّاد، ناهيك عن الحكم عليه بالإعدام، والانتظار الرهيب للرصاصات القاتلة ـ وهو معصوب العينين ومقيد اليدين ـ واستبدال الإعدام في اللحظات الأخيرة بالسجن والنفي إلى سيبيريا المتجمدة. وفوق كل هذا كان يعاني من التوتر العصبي الشديد والعواطف الجياشة المدمرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى