الموت والكرم (تذوق مقطوعة جاهلية)
المَوت والكرَم
(تذوُّق مقطوعةٍ جاهلية)
1. تقديم:
مَهما تقدَّم بنا الزمان وتطوَّرت فينا الفنون، إلا أنَّ الأصالة تظل المنهل الرئيس، ويظل التراث الكنز النفيس، يرجع إليه الأدباء ليستخرجوا مكنون جماله، وينهلوا من خالص وِرْدِه.
وبين أيدينا مقطوعة جاهلية، احتفىٰ بها عمالقةُ الأدب فأودَعوها كتبَهم التي صارت بعدُ من عماد الأدب.
2. الأبيات:
قال ضَمرة بْن ضَمرة النَّهشَليُّ[1]:
3. الشاعر:
صاحِبُ هذه المقطوعة الشعرية هو شاعرٌ جاهليٌّ اسمه: ضَمرة بْن ضَمرة بْن جابر بْن قطن بْن نهشل، من أشراف تميم وفرسانها، وكان أبرص دميمًا، وهو خطيبٌ مفوَّه حكيم، ومِن بيتِ شِعرٍ أصلًا وفرعًا، وكان من المقرَّبين من ملوك العراق، وتُنسَب إليه الحكمة الشهيرة: “إنما المرء بأصغرَيه: قلبه ولسانه”[2].
4. السياق:
أمَّا سياق هذه المقطوعة فقد كان في مقامٍ سمعَ فيه الشاعرُ لومَ امْرأتهِ لهُ علىٰ كرَمه مع بَني عمومته وأقربائه ورَفده إياهم بالنُّوقٍ وألبانها، فأرادتْ هيَ أن يَسْتبْقوها لأنفُسِهم لأيام القحط[3].
5. الوزن:
هذه الأبيات جاءت علىٰ بحر الكامل (التام)، الذي تتكرَّر فيه تفعيلة (متفاعلن) -مع ما يلحقها من زحافات وعِلَل- ستَّ مراتٍ في كل بيت، وهو بحر كثير الحركات، يُعطي المجال للشاعر أن يبوح بصورة أكثر مرونة.
كما أنَّ وزن هذا البحر من الأوزان المتدفِّقة النَّغَم، التي ألِفها الشعراء واستراحت لنغماتها الآذان، وهو من البحور التي تصلح لجميع الأغراض الشعرية لا سيَّما المديح والهجاء.
6. القافية:
جاء الرويُّ في هذه الأبيات حرف الباء، وهو من آخر الحروف مخرجًا كما أنه أول حروف الهجاء ترتيبًا، وأول حرف ينطق به الطفل إذا بدأ تعلُّم النطق. وكما هو معلوم أنَّ حرف الباء حرف مجهور شديد مستفل منفتح مذلق وفيه قلقلة، وجاء الحرف مكسورًا، والحركة تُشبَع بحيث تعطينا صوت الياء وكأنَّ فيه نوعًا من مدِّ الصوت بالصراخ.
ومعلوم أن الشاعر يختار قافيته بين الوَعي وعدَمِه؛ فلذلك كان بالإمكان أن نقارب مقصد الشاعر وأحاسيسه ومدىٰ انسجام قافيته مع غرضه وحالته النفسية؛ فأهمُّ صفات حرف الباء الجهر والشدة، وهما انحباسان في الصوت والنَّفَس، وكأن الشاعر كان يعاني انحباسًا نفْسيًّا بسبب مَلامة زوجته التي تريد منع عطائه لأقربائه، وهو أمر مَهول في تلك البيئة القبَليَّة التي تعتمد اعتمادًا أساسيًّا علىٰ رابطة الدم؛ ولهذا قارنَ بين نَفعِ هذا المال الذي تريدُ لائمتُه الحرصَ عليه، وبين ما سيفعله لأجله أبناءُ عَمِّه وبناتُ عمِّه بعد وفاته؛ ولهذا نَجِد أنَّ هول الأمر دفعَ الشاعر إلىٰ التمثيل علىٰ القضية بذِكْر موته! وذِكْر الموت في حدِّ ذاته أمرٌ مَهول، ومثل هذا جاء أيضًا في شعر حاتم الطائي إذْ قال[4]:
أَماوِيُّ ما يُغْنِي الثَراءُ عَنِ الفَتَىٰ
إِذا حَشْرَجَتْ نَفْسٌ وَضاقَ بِها الصَّدْرُ
|
7. اللغة:
تمتاز الأشعار الجاهليات بلغتها العالية من جهة، والقديمة من جهة أخرىٰ؛ فلذلك احتاجت في العصور اللاحقة إلىٰ تفسير، فكثُرت الشروح التي تكشف معاني ألفاظها المرادة في سياقها.
وهذه المقطوعة لا تُستثنَىٰ من ذلك، فقد اشتملت علىٰ جملة من المفردات التي يحسن بالدارس استبانة معانيها[5]:
المفردة |
معناها |
بكَرتْ: |
المراد به التعجيل، وليس هو من البكور أول النهار. |
بعدَ وهنٍ: |
أي: بَعد قَومةٍ في جوف الليل. |
الندىٰ: |
المراد به هنا السخاء والكرم. |
بَسلٌ: |
أي: حرامٌ. |
تخلجني: |
تجذبني وتنتزعني. |
أأصرُّها: |
الضمير عائد علىٰ النُّوق؛ أي: يشدُّ عليها الصرار، وهو خيطٌ يُشدُّ فوق الخلف؛ لئلَّا تُحلَب أو يَرضعَها ولدُها. |
ساغب: |
من السَّغَب وهو الجوع. |
إبَة: |
خزي. |
عاب: |
عيب. |
هامتي: |
الهامة: هي الروح بعد الموت (من عقائد الجاهلية). |
سِلاب: |
عصائب رأس سوداء، كانوا يلبسونها حدادًا علىٰ الميت. |
8. الأسلوب:
أمَّا علىٰ المستوىٰ التركيبي لأبيات ضمرة، فنجد أنَّه قد أكثرَ من استخدام الجُمَل الفعلية (بَكَرَتْ، تَلومُكَ، عَلِمْتِ، تخلِجُني، تظنِّي، أَصُرُّها، رأيتِ، صَرَخَتْ، خَرَجْتُ، تَخْمِشَنْ، تعْصِبَنَّ)، وذلك ممَّا يُكسِبُ النصَّ حركةً، ويحمِلُ المتلقِّي علىٰ التفاعل معه، وهذا أمر يتناسب مع ما سبق ذِكره في الوزن العَروضي للأبيات.
وأمَّا الجُمَل فقد جاءت خبرية وإنشائية؛ فالخبرية منها كانت في سياق العرض والاحتجاج، كما في صدر البيت الأول؛ وأما الإنشائية فكانت في سياق التوبيخ والإنكار ودفْع المَلامة، كما في عجُز البيت الأول نفسِه.
ويُلاحَظ استخدام الشاعر ضمائر المتكلِّم (مَلامتي، عِتـابي، تخلِجُني، أَصُـرُّها، عَمِّي، عَلَيَّ، خَرَجْتُ، أثْوابي…)، وهذا واضح في كلامه عن نفسه للدفاع عنها، والتنفيس عمَّا يخالجها.
كما استخدم الشاعر أسلوب الاستفهام، وهو من الأساليب التي تُمكِّن صاحب الحجَّة من طرح فرضيَّاته علىٰ الخصم؛ ومِنْ ثَمَّ تَظهرُ استنتاجاته.
والاستفهامُ يُستعمَل أيضًا لغرض الاستنكار كما ورد في البيتين الأخيرَين، فالشاعر هنا لا يطلب جوابًا، وإنما يسوق البديهيات في قالب سؤال، استنكارًا علىٰ مَنْ يقع عليه باللائمة.
9. الظِّلال:
إنَّ هذه المقطوعة مقطوعة جاهليةٌ بامتياز، فقد عكسَتْ أهمَّ ما يُميِّز العصر والبيئة علىٰ الرغم من قِصَرِها، فنجد الشاعر يركِّز علىٰ الحسِّ القبَلي ورابطة القرابة، كما أن فيها ذِكرًا لأسطورة الهامة -وهي طائر يتشاءمون منه- فزعموا أن روح القتيل تصير طائرًا كالبومة يزقو عند قبره ويقول: (اسقوني)[6].
وجاء في هذه المقطوعة أيضًا ذِكْرُ الإبل؛ إذْ كانتْ أغلىٰ ما يملك الإنسان في ذلك الزمان. كما جاء فيها ذِكْر العادة الجاهلية المعروفة في عَصْب النساء رؤوسهنَّ بالسِّلاب (وهي عصائب سُود) حِدادًا علىٰ الميت، ويخمشنَ وجوههنَّ بالأظافر نياحةً عليه.
10. تختيم:
إنَّ قراءة الشعر الجاهليِّ وتذوُّقه يُكسِب المرءَ أدبًا يُغذِّي عقله ووجدانه، ويفتح قريحته للتعبير بإنشاء الكلام، ويَصقل لسانه وقلمه فيُنتجُ الفصاحة والبيان، ويَسيرُ به نحوَ المُكْنةِ حتَّىٰ التطبُّع، ويَنأىٰ به عن الركاكة والتصنُّع.
وهذه المقطوعة علىٰ الرغم من قِصَرها رأينا فيها من البلاغة، والدفقة الشعورية العالية، والتطريب، والجذب، ما يحملنا علىٰ جَعلِها نموذجًا صالحًا للدراسة والتحليل، والإشادة بتراثنا الأدبي الذي لا يخبو نورُه.
[1] مصادر الأبيات:
1- الوحشيات، لأبي تمَّام (ص256) وهي فيه منسوبة إلىٰ ابنه حريّ بن ضمرة، ويبدو أنه وهم.
2- النوادر، لأبي زيد الأنصاري (ص143-144) وليس فيه البيت الثاني.
3- الأمالي، للقالي (2/ 279).
[2] يُنظَر: طبقات فحول الشعراء، لابن سلَّام الجمحي (2/ 583)، وكتاب البرصان، للجاحظ (ص95)، والشعر والشعراء، لابن قتيبة (2/ 622)، وسمط اللآلي، للبكري (1/ 922)، ونشوة الطرب، لابن سعيد الأندلسي (ص456).
[3] أفاده الطاهر بن عاشور في: جمهرة مقالاته ورسائله (4/ 1735)، ومحمود شاكر في تعليقاته علىٰ: تفسير الطبري (11/ 444).
[4] محاضرات الأدباء، للراغب الأصفهاني (1/ 664).
[5] الشرح التالي مستفاد من: نوادر أبي زيد (ص144-148)، وأمالي القالي (2/ 279).
[6] يُنظر: مفاتيح التراث (معجم الأديان والمعتقدات والمعارف قبل الإسلام)، لمحمد عبيدالله (ص424-426).