مقالات

المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن


المضامين التربوية المستنبَطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام

ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن

 

أولًا: توطئة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين؛ محمد بن عبدالله، الْمُرسَل رحمة للعالمين، وعلى أصحابه وآل بيته الأكرمين، وعلى من سار على نهجه بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فإن عنوان هذا البحث، الذي سيكون مقالًا بحثيًّا بإذن الله على عدة مقالات؛ حتى لا نطيل على القارئ، وكذلك حتى تفتح مجالًا فكريًّا للقارئ للإجابة عن بعض التساؤلات التي ستُطرح بإذن الله في المقالات القادمة لاستكمال جوانب الموضوع؛ فيكون مشاركًا لنا فكريًّا في التحفز لمتابعة ما سيُطرح، ومدى موافقته لتوقعاته؛ ولذا فإن عنوان البحث: (المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن).

 

والسؤال الرئيس لهذا البحث كما هو متبع في البحث التربوي: ما المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن؟

وهذا السؤال الرئيس يتفرع منه تساؤلات فرعية هي محور البحث والطرح في هذا المنبر للإجابة عن هذا التساؤل الرئيس؛ وهي كالآتي:

1- ما الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم؟

 

2- ما طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِعَ في السجن ظلمًا وبهتانًا؟

 

3- كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده في سجن عزيز مصر التوظيف الأمثل؟

 

4- تعبير يوسف عليه السلام رؤيا الملك، وتعامله الأمثل الراشد مع خبر خروجه من سجن عزيز مصر.

 

وقد بذلت – مستعينًا بالله أولًا وأخيرًا – كل ما بوسعي بذله من جهد عقلي وفكري وتربوي؛ للإجابة عن هذه التساؤلات؛ لعل ما سوف يتم طرحه هنا يُضفي شيئًا من الجِدَّة، أو يكون جمعًا لبعض المتفرقات، أو ترتيبًا لبعض الأفكار والرؤى حول هذه الفترة الزمنية من حياة رسول الله؛ يوسف عليه السلام.

 

فإن حياة الرسل والأنبياء عليهم السلام كلها تربية وتوجيه للأمة المسلمة في كل زمان ومكان، والمضامين التربوية التي يُمعن الباحث فكره لاستنباطها من حياتهم لَهِيَ كفيلة بإذن الله عز وجل للوقاية من كل سلوك غير سويٍّ، في معتقد قلبي، أو تصورٍ فكري، أو سلوكٍ عملي، وكذلك هي علاج وتصحيح مسار لكل من وقع في خطأ عقدي، أو تصور فكري أو سلوكي عملي غير سوي.

 

لذا؛ وجَّه الله رسولَه وحبيبه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن كان قبله من الرسل والأنبياء، صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين؛ قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]، ومن هؤلاء الرسل والأنبياء يوسف عليه السلام، الذي سوف نعيش معًا في هذا البحث مع فترة زمنية من فترات حياته المليئة بكل توجيه وتربية، تحتاجه الأمة المسلمة في كل زمان ومكان، لا سيما في هذه الأزمنة العصرية التي تمر بها، ففيها كثير من التحديات في جميع المجالات، لا سيما المجال الأخلاقي، الذي يعتبر الأمان الأول لحماية المجتمعات من الإغراق في الشهوات، والتشبع بالماديات المميتة للقلب والإحساس، وما أجمل ما جادت بها قريحة الشاعر أحمد شوقي رحمه الله بهذه الأبيات الأخلاقية؛ فقال:

إنما الأمم الأخلاق ما بقِيَتْ
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

[شوقي، 1425هـ، ص: 183].

 

فالمحافظة على أخلاقيات الأمة المسلمة من خلال تتبع حياة الرسل والأنبياء، والاستفادة منها، وتوظيفها التوظيفَ الإيجابيَّ، تعتبر من “ضروريات العصر للمحافظة على الهوية الإسلامية، وللنهوض بالمجتمع وتقدمه؛ فالأخلاق الحسنة وقِيَمُها النبيلة من عوامل استقرار وأمن وتقدم المجتمع، في جميع الأصعدة، وسوء الأخلاق من أسباب تفكك المجتمع وانهياره وذوبانه في هوية غيره”؛ [الحسني، 1427هـ، ص: 4، 5]، وهذه الفترة المحددة في البحث من حياة يوسف عليه السلام تتعلق بجوانب كبيرة من هذه الجوانب المشار إليها؛ لذا كان اختيار الباحث لهذا الموضوع.

 

وسنكتفي في هذا المقال بالتوطئة السابقة للموضوع، والإجابة عن التساؤل الفرعي الأول: ما الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم؟

سورة يوسف سورة مكية، وآياتها إحدى عشرة ومائة، نزلت هذه السورة في فترة حرجة من فترات مراحل الدعوة المحمدية؛ وهي فترة التحدي الْمُعْلَن من قريش على الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد موت عمه أبي طالب؛ السياجِ المنيع الذي منع كفار قريش من الاعتداء المعلن أو التعرض لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء، أثناء مزاولة الدعوة، فبعد موته اشتد الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته؛ فبلغت الحرب مبلغًا عظيمًا حتى كادت أن تتوقف الدعوة في مكة، حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحدٌ من مكة وما حولها؛ وذلك لشدة وطأة كفار وصناديد قريش على الإسلام وأهله في هذه الفترة الحرجة من فترات الدعوة المكية، وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه بيعة العقبة الأولى ثم الثانية، وفي هذه الفترة الحرجة نزلت هذه السورة التي تضمنت قصة يوسف عليه السلام كاملةً، بعد سورة هود، وكان في ذلك تسلية وتثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام.

 

إن هذه السورة تضمنت قصة من قصص الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، متكاملة في جميع أجزائها، ومحاورها، ومضامينها، لشخصية واحدة من الرسل والأنبياء؛ وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام أجمعين، ووصف الله عز وجل هذه القصة في مطلع السورة بوصف لم يصف به قصة من قصص القرآن الكريم؛ وصفها بأنها أحسن القصص؛ قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 3].

 

وحسبُ الباحث أن يقف مع جزء من هذه القصة ابتداءً من الآية الحادية والعشرين؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21]، إلى الثالثة والخمسين؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف: 53]؛ لاستنباط بعض المضامين التربوية من خلال المحاور التي سوف يتعرض لها الباحث ضمن بحثه التربوي لهذه الآيات القرآنية.

 

تميزت قصة سورة يوسف عليه السلام كاملة بأنها أحسن القصص كما وصفها الله عز وجل، وهذا ما جعل الباحث يطرح سؤالًا: لماذا سُمِّيَتْ سورة يوسف التي تضمنت هذه القصة بأحسن القصص؟!

فنَقَلَ (ماضي) في كتابه المسمى (سياحة إيمانية في سورة يوسف) عدة إجابات تعليلية لهذا التساؤل المطروح، نوردها [1414هـ، ص: 8-10]:

لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العِبَرِ والحِكَمِ ما تتضمن هذه القصة، وبيان ذلك فيما يقول الإمام القرطبي في [الجامع لأحكام القرآن، ج: 5، ص: 334، دار الريان للتراث]: “قوله تعالى في آخرها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].

 

وقيل: سمَّاها أحسن القصص؛ بحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم – بعد التقائهم – عن ذكر ما تعاطَوه وفعلوه، وكرمه في العفو عنهم؛ حتى قال: ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92].

 

وقيل: لأن الله تعالى ذكر فيها الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والجن والأنس، والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار والعلماء والجهَّال، والرجال والنساء، وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه، والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة، وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا.

 

وقال بعض الحكماء: إنما كانت أحسن القصص؛ لأن كل ما ذُكِرَ فيها كان مآله السعادة، وانظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز، قيل: والملك أيضًا أسلم مع يوسف وحسن إسلامه، والساقي صاحب الرؤيا والشاهد فيما يُقال، فما كان أمر الجميع إلا إلى الخير.

 

وقصص الأنبياء كلها فيها العِبر النافعة، والأحكام الشافية، والتوجيهات الربانية الكافية لكل خير، والمحذِّرة من كل هلاك، ولكن تخصيص هذه السورة بأحسن القصص؛ لأن فيها “آيات وعبر منوعة لكل من يسأل ويريد الهدى والرشاد؛ لِما فيها من التنقلات من حال إلى حال، ومن منحة إلى منحة، ومن منَّة إلى منة، ومن ذلة ورِقٍّ إلى عزٍّ وملك”؛ [السعدي، 1418هـ، ص: 13].

 

ويستمر السعدي رحمه الله في سرد بعض هذه الحكم والعبر لهذه التسمية قائلًا: “ومن فُرقة وشتات إلى اجتماع وإدراك غايات، ومن حزن وتَرَح إلى سرور وفرح، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه هذه القصة العظيمة، فتبارك من قصَّها ووضحها وبيَّنها”؛ [السابق، ص: 13].

 

فالملمح البارز لهذه السورة كما اتضح مما سبق أنها تتكلم عن قصة يوسف عليه السلام، بأسلوب قصصي متكامل في الأدوار والأبعاد القصصية، مما يجعل المتابع لها والقارئ متحفزًا لمتابعة القصة بوعي وإدراك، ومتلهفًا لمعرفة النهايات.

 

فالقصة القرآنية “ذات مغزًى تربوي رفيع، دراستها على جانب كبير من الأهمية، خصوصًا من الناحية التربوية؛ فهي قالب تربوي، ومنبر إعلامي، تنفذ من خلاله الدعوة إلى القلوب فتهزها، وإلى النفوس فتنفُضها نفضًا، وفيها تربية شاملة متكاملة تربي الفرد والجيل المسلم على الأخلاق الإسلامية والتعاليم الربانية”؛ [الرحيلي، 1420هـ، ص ح].

 

وأخيرًا، فإن المقصود بـ”أحسن القصص” عامة ما في القرآن الكريم، فكلها حسنة؛ لأنها من الله عز وجل، ولكن مقارنة بما يقص القاص، فإن “قصص القرآن الكريم أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه، وإعجاز أسلوبه، وبما يتضمنه من العِبر والحِكم، فكل قَصَص في القرآن هو حسن في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن، وليس المراد أحسن قصص القرآن، حتى تكون قصة يوسف عليه السلام أحسن من بقية قصص القرآن”؛ [ابن عاشور، 1420هـ، ج: 12، ص: 10].

 

وهكذا كانت هذه السورة مسلية ومثبتة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، وكل مَن يأتي مِن أمته إلى أن تقوم الساعة، بأن النصر والتمكين والعلوَّ لأهل الإيمان والتوحيد الصادقين الصابرين، وبأن الفرج آتٍ، والأمل قادم، والمحنة ستزول، مهما كان الظلام دامسًا، فلا بد أن يبزُغ الفجر بنوره، ويشع الدنيا كله بضيائه، فالمهم هو أن يُحسن المسلم الإيمان بالله والتوكل عليه، وأن يثبُت على صراطه المستقيم، كما حصل مع يوسف عليه السلام في محنته وبلائه، في هذه الفترة التي دخل فيها بيت عزيز مصر إلى أُودِعَ السجن وخرج منه.

 

المضامين التربوية المستنبطة من المحور الأول: الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام؛ ما يلي:

1- أسلوب التربية بالقصة عمومًا، وبالقصة القرآنية خصوصًا، من الأساليب التربوية الإسلامية.

فهو “من الأساليب التربوية الناجحة في تنمية القيم الأخلاقية؛ حيث يتشرب السامع للقصة بوعي وإدراك للقيم الأخلاقية المبثوثة في ثنايا القصة”؛ [الحسني، 1427ه، ص: 183]، وهذا واضح جليٌّ في هذه القصة المسمَّاة بأحسن القصص، التي تميزت به هذه السورة.

 

وكذلك إذا كان القاصُّ في غير القرآن الكريم “لديه مهارات فن العرض، وتحريك الأوتار الحساسة الفنية أثناء المرور على تلك القيم الأخلاقية، وكذلك إذا كانت خاتمة القصة فوزًا ونجاحًا لبطل القصة الذي تبنَّى القيم الأخلاقية في تعامله وسلوكه، فكان له هذا النجاح”؛ [السابق، ص: 183]، وهذا هو الذي حدث في هذه القصة الموصوفة بأحسن القصص، التي تمثلت في شخصية يوسف عليه السلام.

 

2- تأثير القصة في النفس الإنسانية، والحاجة إليها في البناء النفسي والفكري والتربوي للشخصية المسلمة في كل زمان ومكان.

وهذا التأثير الإيجابي في النفس الإنسانية للقصة، يتحقق بشرط أن تُوضَع في قالب عاطفي مؤثر، فت”عالج آفاق النفس، فتحرك الدوافع الخيرة في الإنسان، وتطرد الدوافع الشريرة منه، فهي قد تجعل القارئ أو السامع يتأثر بما يقرأ أو يسمع، فيميل إلى الخير وينفذه، ويمتعض من الشر فيبتعد عنه”؛ [الصالح، 1424هـ، ص: 124]، وهذه القصة في هذه السورة تحمل كل ما ذُكِرَ وزيادة، فهي من أحسن القصص القرآنية، والإنسانية من باب أولى.

 

3- التأدب مع الله عز وجل فيما قص في كتابه من قصص، وعدم تجاوز ما ورد عنها في القرآن الكريم.

فلا مجال لعقولنا ومداركنا أن نعرف ما لم يتطرق الله لذكره في قصة من القصص القرآنية؛ فهي أحسن القصص، فلا مجال لتجميلها بزيادات عقولنا وأفكارنا القاصرة، ويكفي الالتزام بوصف الله عز وجل لها، فهي أحسن القصص؛ فالحُسن مبنيٌّ على الحق، وكل ما ذكره الله حق، بخلاف ما يرِد في الإسرائيليات والأساطير من عقول البشر المجردة، فهي قاصرة وفاقدة لصفة الحق الصواب.

 

4- كلما اشتد البلاء على الصالحين بصنوفه وأنواعه المتعددة، زاد ثباتهم ويقينهم بصحة الطريق الذي هم له سالكون، وفي المقابل كلما ازداد عدوهم بثباتهم ضعفًا ووهنًا نفسيًّا لا ينفع معه عدة ولا عتاد.

 

وهذا المضمون التربوي واضح جليٌّ من خلال مناسبة نزول قصة يوسف عليه السلام في الفترة الحرجة من حياة المصطفى عليه الصلاة والتسليم، التي تُعرَف بعام الحزن؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني من تكتُّل كفار قريش وتجمُّعهم عليه، ونبذه صلى الله عليه وسلم، وعزله حتى شعر بالوحشة والغربة والانقطاع، هو وصحابته الكرام رضي الله عنهم في الفترة المكية، واشتدت بعد موت عمه أبي طالب وزوجه خديجة؛ فسُمِّيَ العام عام الحزن، وفي هذه اللحظات الصعبة من حياته صلى الله عليه وسلم يقص الله عز وجل عليه قصة يوسف عليه السلام، بما فيها من صنوف المحن والابتلاءات التي تعرَّض لها يوسف عليه السلام، وكيف صبر وثبت، وكيف تعامل معها، ثم ماذا كانت النتيجة في خاتمة السورة، من التمكين ليوسف عليه السلام، ومن الانتقال من المحن والابتلاءات إلى المنح الربانية، وأصبح يوسف عليه السلام هو المقدَّم والمحكَّم في أقوات الناس، وفي التعامل مع أحداث تلك المرحلة بعد أن كان رقيقًا، طريدًا، مسجونًا، بعيدًا عن أبويه، وإذا بمصرَ ومُلك مصر بين يديه.

 

فهذه القصة تسلية لرسول لله صلى الله عليه وسلم، وتثبيت له، وبشرى وإضاءة ربانية له بنهاية المطاف، وبأنه النصر والتمكين، وأن هذه الفترة الحرجة من حياته آذنت بالانبلاج والرحيل، وهذا ما حصل فعلًا وواقعًا بأن عقِبتها بيعة العقبة الأولى والثانية، ثم الهجرة للمدينة، وتكوين دولة الإسلام القوية المكينة التي لم يَرَ الوجود، ولن يرى مثلها في التعامل مع النفس البشرية.

 

5- لا تفضيل بين قصص القرآن الكريم؛ فإن القاص لها الله عز وجل.

فهو سبحانه وتعالى “يوحي ما يعلم أنه أحسن نفعًا للسامعين في أبدع الألفاظ والتركيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح، وابتهاج النفس والذوق، مما لا تأتي بمثله عقول البشر”؛ [ابن عاشور، ج: 12، ص: 203، 204]، والصحيح “والعلم عند الله أن المراد بأحسن القصص؛ أي قصص القرآن عامة”؛ [الرحيلي، 1420هـ، ص: 70].

 

قال ابن تيمية رحمه الله: “فقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] يتناول كل ما قصه في كتابه، فهو أحسن مما لم يقصه، ليس المراد أن قصة يوسف عليه السلام أحسن ما قُصَّ في القرآن”؛ [ج: 17، ص: 22].

 

هذه بعض المضامين التربوية التي حاولت جاهدًا استنباطها من هذا الملمح التربوي، وعسى أننا وُفِّقنا في عرضها وربطها بمواطن الاستنباط، ولا شك أن هناك دُررًا من الفوائد والمضامين ما زالت في هذا الملمح، عجز عن الوصول إليه عمق تفكيري، وحسبي أنني حاولت أن أستعرض ما ذكرت؛ لعله أن يكون لي عمل صالح أنتفع به في حياتي، وبعد رحيلي؛ فأسأل الله النية الصالحة من القول والفعل.

 

وأرى الاكتفاء في هذا المقال بعرض ما سبق، حتى يستوعب القارئ والمتابع ما تم طرحه، وكذلك ما تم استنباط مضامينه، وكذلك نفتح مجالًا له للإضافة لهذا المحور بما يجُود به فِكره، وكذلك ليستعدَّ معنا ويتشوَّق لاستكمال الموضوع في الملمح الثاني ومضامينه بإذن الله، ونستودعكم الله إلى لقاء قريب بإذن الله، لاستكمال ما بقِيَ في هذا الموضوع.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى