مقالات

من أساليب الممارسات الخطابية (Discursive practices)


من أساليب الممارسات الخطابية (Discursive practices)

التنبُّه للممارسات الخطابية في حياتنا العامة أمرٌ لا غِنًى لنا عنه؛ لِما لبعض هذه الممارسات من أثر سلبي على نفوسنا ورؤانا في الحياة، إنْ كان بعض الممارسين من إعلاميين، وأدباء، ومفكرين، وغيرهم، لا يألون جهدًا في تمرير رؤاهم السلبية بطرق سَلِسة ناعمة، فالأَولَى بنا معرفة أساليب تمريرها والتصدي لتأثيرها السلبي علينا، وإثراء المحتوى العربي الذي يبدو أنه يفتقر لمثل هذه المواضيع مقارنة بالمحتوى المكتوب باللغة الإنجليزية.

 

أساليب الممارسات الخطابية كثيرة ومراوِغة، إلا أن هذا المقال سيتطرق لمثال واحد منها.

 

تمرير بعض الأمور في ثنايا أحداث رئيسية:

في سياق بعض الأحداث الرئيسية المهمة والمرغوبة في حياة الإنسان؛ كالخدمات الأساسية؛ مثل: خدمات الصحة والتعليم، والأمن والتقدم والنجاح؛ إلخ، بعض الأمور تلفت الانتباه، إلا أن وجودها يكون لطيفًا وخاطفًا ضمن سياق تقديم تلك الخدمات؛ لذلك أي محاولة للاعتراض ولتسليط الضوء على أمر جاء خاطفًا، ضمن حدث رئيسي مهمٍّ ومرغوب، سيُظهِر صاحبه مغردًا خارج السرب؛ مثلًا: تعليق أحد ما على أمر غير مقبول دينيًّا؛ كالتبرج (ظهور بعض مفاتن جسد المرأة) أثناء لقاء مهم يُعرَض على وسيلة إعلامية، عن محاولة مساعدة ضحايا الحروب وذوي الأمراض المزمنة.

 

ملخص المثال:

الحدث الرئيسي:

الملاحظة الخاطفة:

لقاء تلفزيوني يعرض الخدمات التي تُقدَّم لضحايا الحروب والأمراض المزمنة.

ظهور مذيعة عصرية في لباسها، لبقة في كلامها، ومتعاطفة مع الحدث.

 

إن أهمية الحدث الرئيسي في المثال أعلاه واضحة؛ عرض خدمات إنسانية ضرورية، ومن ثَمَّ جذب الانتباه لموضوع التبرج للاعتراض عليه، أثناء تسليط الضوء على تلك الخدمات، يَظهَر كأمر ثانوي خارج سياق الحدث الرئيسي؛ لذلك إضاءة موضوع التبرج هنا تجعله يبدو ساذجًا، وتجعل صاحبه شخصًا لا يعي ولا يفهم، ولا يقدِّر الخدمات الإنسانية الأساسية؛ لأنه أهْمَلَ أهمية الحدث الرئيسي، وعَظَّمَ أمرًا صغيرًا ثانويًّا لا يُؤْبَهُ له.

 

هذا التصرف قد يبدو ساذجًا فعلًا؛ لأن فيه تسرعًا في طرح فكرة هامشية – هامشية طبعًا في تلك اللحظة – ضمن سياق فكرة أكبر منها، وأكثر حضورًا وإلحاحًا، وأهمية وجودية ماسَّة في أذهان المتلقين؛ وهي فكرة الخدمات الضرورية المُلِحَّة في حياة الناس المباشرة.

 

إلا أنه نظرًا لأهمية ذلك الأمر الخاطف أيضًا، ولتعديل خلل تسليط الضوء عليه ضمن سياق أكثر أهمية منه في نفس اللحظة، يكون من فقه الواقع تناوله بشكل منفصل، في سياق يكون هو محور الحدث – أي يكون هو الحدث الرئيسي – لإعطاء أذهان المتلقين فرصة رؤيته كحدث رئيسي، وليس كملاحظة اعتراضية عابرة أثناء انشغال الأذهان بشيء أكثر إلحاحًا في وقته.

 

بداهةً، أذهان الناس لا تستسيغ إلغاء حدث رئيسي حيوي مهم، وتتعاطف مع موضوع يَظهَر ثانويًّا، ولو كان ذا أهمية بالغة ضمن الرؤية الشاملة للإنسان في الحياة، لا بد من إدراك حقيقة أن ذهن المتلقي ينشغل بالحدث الرئيسي، وغالبًا لا يأبه أثناء ذلك لأي موضوع آخر، مهما كانت أهميته في فكر ورؤية الإنسان العقائدية، أو أي رؤية أخرى مهمة له.

 

لذلك، إعلاميًّا وأدبيًّا وفكريًّا، يتم تمرير – أو استغلال – مواضيع أو أفكار كأمور ثانوية يُرَاد لها أن تمر ضمن أحداث رئيسية لفعالية سياق هذه الأحداث لهذا الغرض، وهنا يكون تفويت الفرصة كبيرًا على المعترضين على تلك المواضيع أو الأفكار التي تَظهَر ثانوية؛ لأن المعترض عليها يظهر بمظهر من يغرِّد خارج السرب، وربما خارج الزمن أو يعيش في الماضي، ومن ثَمَّ يُنَفِّرُ المتلقين من ملاحظته ومنطلقها أكثر مما يلفت انتباههم ويجذبهم لها، وغالبًا ما يشعر المعترض – أو لافت الانتباه للخلل – بالامتعاض من نفور الناس منه، وعدم رؤيتهم لِما يلفت نظرهم له؛ وهو لا يدري أن سبب نفور الناس من الملاحظة – أو التنبيه – هو قوة تأثير سياق الحدث الرئيسي وأهميته المباشرة في حياتهم.

 

إن موضوع الممارسات الخطابية (Discursive practices) يناقَش في أدبيات الأبحاث اللغوية والأدبية الأكاديمية، تحت مفهوم أو مصطلح دراسات/تحليل الخطاب (Discourse studies/analysis) ويمكن اعتبار هذا المقال دعوة لزيادة الاهتمام بفنيات أساليب تمرير الممارسات الخطابية، وإضاءتها؛ بهدف المساهمة في إثراء المحتوى العربي في هذا الموضوع، وتجويد حياتنا إعلاميًّا وأدبيًّا وفكريًّا؛ إلخ[1].

 



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى