مقالات ثقافية

صرخات يائسة


صرخات يائسة

 

أوشك فصلُ الشتاء على القدوم، وسمِع الناس من خبراء الأرصاد الجوية أن موسمه هذا العام سيكون قاسيًا جدًّا، وستتدنَّى درجات الحرارة إلى معدلات غير مسبوقة، فاستعدَّ الناس لمواجهته بما يناسب من تجهيز المدافئ، وملء خزانات الوقود، وإغلاق منافذ الهواء في الغرف، ونبش الملابس الصوفية، وانتقل رعاة الأغنام بمواشيهم إلى الساحل، بل حتى الطيور بدأت أسرابها تمر مغادِرَةً أماكنها الباردة إلى أماكنَ أكثرَ دفئًا، وأخذ النمل يعمل بأدب ونشاط في تخزين الحبوب في قُراه؛ حيث سيحتاجها في الشتاء.

 

وحدَه رجل قوي البنية، مفتول العضلات، تظهر عليه آثار النعمة، استقبل فصل الشتاء باستخفاف، وعدم مبالاة، وبدَّد آخِرَ فَلْسٍ لديه في التنقل بين المطاعم والمقاهي وأماكن التسوق، ولم يكلف نفسه عناء تفقُّد منزله النائي، الذي كان قد هجره لقضاء العطلة الصيفية في منتجع سياحي، وكانت قد تحطمت أبوابه ونوافذه بفعل الهزات الأخيرة، بل كان هذا الشاب ينظر إلى أولئك الذين يستعدون لقدوم فصل الشتاء بكثير من السخرية والازدراء، ويصفهم بأقبح الصفات، ثم حلَّ الشتاء، وأتت رُعُوده وأمطاره ورياحه العاتية، وأخذ صاحبنا يتلوى من البرد، ويعاني من المياه والسيول التي اقتحمت منزله، ثم تحولت الأمطار إلى ثلوج، فلم يجد شيئًا يحميه من لسعِها، أطلق صرخات يائسة، ثم انزوى في ركن إحدى غرف المنزل، ليستيقظ الناس صباحًا ويجدوه جثة هامدة، ويجدوا الدم الأزرق قد غطى كافة أنحاء جسده.

 

منظر محزن جدًّا دون شك، ومع ذلك لم يذرِفْ أحدٌ دمعةً واحدة على ذلك الشاب؛ لأنه هو من اختار هذا المصير البئيس، وصنعه بيده، وسار إليه بمحض اختياره وإرادته، وكم استخفَّ بنصح الناصحين، وعظة الواعظين!

 

هذا الشاب نموذج لأكثر المسلمين والله، يعلمون أن الموت قادم، وأنهم سينزلون بعده حفرة ضيقة مظلمة موحشة أنيسهم فيها الدود والهوام، وأنهم بعد القبر سينتقلون إلى الحشر، ثم النشر، ثم الحساب، وبعده إما جنة أبدا، وإما نار أبدا، لكنهم يتعامون مع هذا الحق الذي لا مرية فيه تعامل ذلك الشاب المستهتر، ويبددون نفائس عمرهم في الملذات والملهيات والشهوات، غافلين أن ربهم ما خلقهم عبثا، ولن يتركهم سدى، وأن لهم موعدا لن يخلفوه، تتقطع فيه نفوسهم أسى وحسرات على ما فرطوا في زمن الزرع والعمل، ويتمنون العودة إلى الحياة، للتدارك وعمل الصالحات، لكن هيهات هيهات كتب الله على نفسه أنهم إليها لا يرجعون.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى