مقالات ثقافية

اعتراف


اعتراف!

 

أعترِفُ أنا العبد المخلوق الضعيف الجاهل، المسمَّى: عبد الله، أعترِف بجهلي.

 

وأعترف بِغَرقي في بحور عِلْم القرآن الكريم وأنوار هدايته، وفي بحور عِلْم حديث رسول الله ﷺ وأنوار هدايته، وانبهاري بعلومهما، وبدقائقهما، وبأسرارهما. فكلما لاح لي فيهما نجمٌ خطفَ ببصري وأخذَ بلُبِّي، يقودني نحو ربِّي، عزّ وجلّ، وأخذني إلى سموِّ سماء العلم والهداية، وإلى أجواء الدار الآخرة!

 

فشَغَل ذلك عقلي ولُبِّي، واستغرقَ همّي ووقتي؛ فأجدني عاجزاً في لُجّة الوحي الشريف؛ سعيداً به؛ فلا عُمُري يكفيني للسيْرِ المُـبحِر في بحر العلم والهداية والإعجاز؛ قاصراً عن أنْ أَبلُغ المُـنى؛ فأَسُدّ رَمَقي؛ وأُرْويَ عطَشي مِن هذه الأنوار والعلم والهداية!

 

لكن، عليَّ أنْ أَسير، نَعمْ، إلى الله تعالى أَسيرُ، وأنا مختارٌ، وفي الوقت نفسِهِ أنا له (أَسير)!

 

نَعمْ، العُمر لا يكفيني لاستكمال الهدف والمقصد؛ والظَّفَر ببغيتي، وإسعاد مُهْجتي؛ واستكمال مَحجّتِي، فلن أَبلُغَ ذلك حتى لو أُضيف إلى العُمُر أعمار!

 

لكنّ المُسْعِد، ليس هو مجرّد أرقامِ ما نقضيه في أعمارنا مِن السنين، وإنما هو أنّ الله سبحانه يَرضى مِنّا القليل، ويَرضى مِنّا الاجتهاد والمحاولةَ أنْ نكونَ سائرين في الطريق إليه وإلى رضوانه عزّ وجلّ وإلى سبيل النجاة في الآخرة، والفوْز بالنعيم المقيم هناك!

 

فما أكرمَهُ مِن ربٍّ كريم، سبحانه وبحمده!

 

فهو جلّ جلاله يَقبَلُ مِنّا السعي في طريقه، بغضّ النظر عن النتائج: أدركْناها، أَمْ لم نُدركها!

 

ومِن أعظمِ كرَمِه جلّ جلاله: هذا الوحْي الإلهيّ، الذي أنزله على خَلْقه؛ ليكون هدايةً وحُجّةً على العالمين!

 

وقد وَضَحَتْ لنا بهذا الوحْي المحجّة، وقامتْ لله علينا وعلى العالمين الحُجّة!

إنه وحْي الله!

إنه كلام الله!

إنه هداية الله!

إنه معجزات الله!

إنه حجّة الله على العالمين!

﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51].

ألا ما أعظمَ خيبةَ المعرضين عنه!

ألا ما أشدّ خسارة المنشغلين عنه، المنشغلين بسواه!

ألا ما أعظمَ غفلتهم!

ألا ما أشدّ غباءهم!

ألا ما أشدّ خسارتهم!

فما الذي أعشى أبصارهم عن أنوار هدايته!

أيَتركون النور وينجذبون للظلام!

أيزْهدون في الهُدَى ويُهْرعون إلى الضلال!

أيُعرِضون عن الخالق سبحانه ويتّجهون لِسواه!

 

أليست الحياة في حقيقتها بيعاً وشراءً: نبيع أعمارنا وأنفسنا، شئنا أم أَبَيْنا، علِمْنا أم جهِلنا أم غفلنا؛ لأنّ الوقت ماضٍ في طريقه؛ فبحسَبِ ما نختاره لقضاء أوقاتنا يكون بَيْعنا!

 

فبالله عليك أيها الإنسان، ألا يستحق هذا وقفةً منّا؛ لنرى: ماذا بِعْنا؟ وماذا اشترينا؟ ولِمَن بِعْنا؟

 

لا شك في أننا نبيع أنفسنا بالتقسيط حتى ينتهي رصيد العمر، الذي أقّتَه الله لنا وأجّله؛ فيُعْلَن انتهاء صفقة البيع، واسترجاع السلعة المباعة إلى صاحبها، بل إلى خالقها ومالكها، سبحانه وتعالى!

 

لكن ألا ننظر في خياراتنا في هذا البيع:

إلى مَن بِعْنا أنفسَنا؟ إلى الله أَمْ إلى سِواه؟

وماذا اخترنا لأنفسنا مِن الثَّمَن؟ رضوان الله أم سخطه؟ الجنة أم النار!

 

لقد أَعلنَ رسولُ الله ﷺ هذا البيع، ونتيجته بقوله: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها»! (مسلم، رقم 223).

 

وقد رضي الله سبحانه -كرماً منه وفضلاً- بأنْ يَشتري مِنّا أنفسَنا، التي هو خالقها المتفضّل علينا بها!

وهذا كرمٌ لا حدود له، وذلك بقوله عزّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].

 

فيا هذا، قد رضي الله لك هذا البيع؛ أفلا ترضاه!

أفلا تَفِي بهذا البيع وشروطه!

اللهم ربنا قد رضينا؛ فارض عنّا، وأعنّا، يا إلهنا ومولانا!

 

والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى