مقالات ثقافية

في الطريق إلى المسجد


في الطريق إلى المسجد

 

طفلة صغيرة لم ألبَسِ الحجاب بعدُ، أقف أمام المنزل، أنظر إلى الفضاء أمامي، أحاول بعيني الصغيرتين التقاطَ بقايا أشعة شمس أوشكت على الرحيل، أحاول جاهدةً إقناعها بانتظاري قليلًا، توافق على رغبتي واضعةً شرطًا واحدًا؛ وهو أن أركض قبل أن تأفُل، أعلم أن الطريق بعيدة على طفلة في سني، ومليئة بحجارة يسهُل تعثري فيها بلبس صلاتي الذي يفوق طولي بكثير.

 

أنحني إلى الأسفل بسرعة خاطفة، ألتقط أطرافَه، أرفعها للأعلى وأربطها حول خَصْري، أُطلِق رجلي للريح، في استجابة لشرط الضوء الذي يكثر إخلاف وعده، تتطابق علاقتي بالضوء تلك اللحظة مع علاقة الفراشات به، أرمي بنفسي إليه، يغيب وأنا في الطريق، تتعثر رجلاي في الحجارة التي لم يعُدْ يخيفني السقوط فيها، بعد أن أصبح هناك ما يخيفني أكثر؛ ألَا وهو الظلام، أتخيل ظل شبح أمامي، أتخيل صوت جِنِّيٍّ يُطِل من فوقي كغَيمة، يناديني كالرعد، يهطِل عليَّ الخوف كالمطر، أتخيل أشياء أخرى مليئة بالرعب.

 

أُكْثِرُ تخيُّل الأشياء إلى درجة تصديقها، أركِّز عينيَّ على الطريق متفادية رؤية كل ما تخيلته، وصدقت وجوده، أركض بسرعة أكبر، أدخل المسجد لاهثة.

 

أتحلق كباقي زميلاتي حول المدرسة.

ونبدأ بتعلم القرآن.

 

تمر سنون طويلة، تزداد أسباب الخوف وتكون أكثر رعبًا، تزداد عدد الذكريات، ويتضاعف باستمرار عدد الأشخاص الذين مروا في حياتي، تعبث ذاكرتي بهم كيفما تشاء، تحذف من أرادت وتُبقي على من أرادت، وتبتُر بوحشية من تشاء، فتحتفظ بأشكالهم وتنسى أسماءهم، أو تحتفظ بهيئتهم وتنسى ملامحهم، وهناك أيضًا من تحتفظ بكلماتهم وتنسى أيَّ شيء آخر يخصهم.

 

ومع كل هذا العبث الذاكري، وكل السنين، تبقى صورة وصوت وابتسامة مدرستي الأولى في حِلَقِ تحفيظ القرآن راسخة، ليس بالكثير من التفاصيل، ولكن بالكثير من الطمأنينة والسلام.

 

أشعر بالغضب والاستفزاز في كل مرة أسمع فيها من يتحدث بالسوء عن الدُّعاة والداعيات، ومن يسعى لتشويه صورتهم، ويصفهم بالنفاق والتناقض، من يعيب من يتحدث عن الدين والقرآن، ويدعو للفضيلة والحشمة والأخلاق، وينبِذ الفساد والضلال والعُرْيَ، والأفكار الغربية المشوَّهة، ففي كل مرة أسمع من ذلك الكلام المستفز، تفتح لي ذاكرتي التي عجزت عن العبث بما تبقى فيها من بعض الأشخاص، الذين لهم القدرة على ترسيخ وجودهم بشكل سليم في ذاكرة من يقابلهم، وتقف أمامهم الذاكرة عاجزة عن القيام بأي عبث، تفتح لي ذاكرتي صورة أستاذتي الأولى؛ ابتسامتها، تعليمها إيانا أركان الصلاة بإخلاص وتفانٍ، شرحها لبعض الآيات القرآنية بسَعَةِ بالٍ، صبرها علينا، جهودها في تحبيبنا الله ورسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

 

المسجد كذلك، لم يبقَ في ذاكرتي فقط، بل تخطَّاها ووصل إلى قلبي، أشعر بالطمأنينة كلما دخلت إلى مسجد، يهدأ قلبي لأضوائه، مهما سطعت، يطمئن لرؤية سقفه المرتفع، لصوت مكبر الصوت عندما يُمسِكه الإمام، وقبل أن يبدأ الأذان، لصوت الآذان نفسه، والقرآن، والخطب الإيمانية والوعظية.

 

تمر السنون وأمرُّ بعدة مساجد؛ المسجد الجديد الذي بُنِيَ بجانب منزلنا، مسجد السكن الجامعي، المسجد الذي صرتُ أرتاده بعد زواجي وانتقالي لمدينة أخرى، ثم مسجد آخر في منطقة سكنية جديدة، لا يكف قلبي عن التعلق بها، مهما ابتعدت عن الله، ومهما ضعُف إيماني، مهما قست عليَّ الحياة بوحشية، تظل بيوت الله ملاذي الآمن، وأماكنَ طمأنينتي الأبدية.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى