مقالات

من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم (6) (التشريعات الإسلامية ودلالتها على صدق النبوة)


من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم

الحلقة السادسة (التشريعات الإسلامية ودلالتها على صدق النبوة)

تقدم الكلامُ في مقالات سابقة عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه قبل البَعثة وبعدها، ودلالة ذلك على صدقه في دعوى النبوة، وتعرضنا كذلك لبعض ما دعا الناس إليه من معتقداتٍ تتنافى مع فرضية كذب نبوته واختلاقها.

 

ونعرض في هذه المقالة للجانب التشريعي ودلالته على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعواه، ولن نتكلم في حديثنا هذا عن الإعجاز التشريعي، ولا عن تماسك البناء التشريعي واطراده وشموله، وكيف يتأتَّى ذلك من رجل أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ويسكن البادية بين مجتمع أميٍّ بدائي.

 

وإنما سنتكلم عن التشريعات الإسلامية ودلالتها على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من جوانبَ أخرى، وهي أمورٌ نرى أنه ليس بمقدور الخصوم أن يكابروا في دلالتها، ولا أن يدفعوا في صدر وجاهتها.

 

ولسوف نطرح حجتنا في دلالة التشريعات الإسلامية على صدق صاحب الرسالة صلوات الله عليه، على وجه الإجمال، وعلى وجه التفصيل:

أما وجه الإجمال؛ فنقول: إن المشاهَد والمحسوس أن أحكام الشريعة الإسلامية وقوانينها متوغِّلة في حياة الناس اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وفي السلوك الفردي والحياة الخاصة كذلك، وهي في ذلك لا يجاريها ولا يعادلها شريعة أخرى، سماوية كانت أو أرضية.

 

وإذا كان الأمر على هذا النحو، فهل من العقل أن الرجل الذي يقول الخصوم: إنه أفَّاك مدَّعٍ للنبوة، وليس نبيًّا من عند الله، والذي همُّه الأول والأخير أن يصدِّقه الناس في ادعائه الكاذب أنه رسول من عند الله؛ ليرفع بذلك مكانته ومنزلته عندهم، ثم يعمِد هذا الرجل في سبيل الوصول إلى تلك غايته المنشودة، إلى إخراج الناس من مألوفاتهم العقدية والاجتماعية والاقتصادية، وأطْرِهم على نظم جديدة اخترعها من عنده، وتكون هذه النظم متوغلةً في عاداتهم وحياتهم وحرياتهم كل التوغل، وفيها من المشقة والكُلْفة، وتقييد الحريات الخاصة، وكبح شهوات النفوس، والإلزام بوظائف عبادية كثيرة؟!

 

أقول: هل من العقل أن يكون هذا مسلكه ليصدقه الناس، ويلتفوا حوله، ويزداد أتباعه عددًا؟!

 

أليس العقل قاضيًا بأن تكون تشريعاته وقوانينه الجديدة، ووظائف العبادة في دينه المخترَع أشياءَ يسيرة سهلة، بحيث لا يستشعر المصدِّقون له في ادعائه، والداخلون في دينه المزيف، أنهم إزاء مشقة والتزامات، تضيق بها صدورهم، وتضرر بها نفوسهم ومعايشهم ومصالحهم الاقتصادية؟!

 

أليس المنطقي أن يكون لبُّ دعوته للناس أن يصدقوا كونه نبيًّا، بجانب بعض التشريعات التي يحافظ بها على سلطته ومصالحه الشخصية فحسب؟!

 

إننا لنجد الأمر معكوسًا في الحالة المحمدية؛ إننا نجده يمنعهم من شرب الخمر، تلك العادة التي شبَّ عليها الصغير، وهرِم فيها الكبير، ويمنعهم من الزنا واللواط، بل النظر إلى النساء على وجه الاشتهاء، وعن مصافحتهن، وعن الدخول عليهن بلا وجود مَحْرَمٍ، ويحرِّم عليهم نكاح الأمهات، والخالات، والعمات، وبنات الزوجات، ويجعل القرابة بالرضاع كالقرابة بالنسب في تحريم الزواج…؛ إلخ.

 

كما يمنعهم من كثير من المعاملات الاقتصادية المنتشرة في مجتمعهم؛ كبيع السلع قبل حيازتها، وبيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها وأمنها للآفات، وبيع ما لا يملك الإنسان، وبيع الجنين في بطن أمه، وبيع الدم والنجاسات، وبيع القمح بالقمح، أو الشعير بالشعير تفاضلًا…؛ إلى آخر ذلك من تلك المعاملات الكثيرة المنهي عنها.

 

فهل هذا مسلك رجل كاذب، لا غرض له سوى أن يتابعه الناس على كذبه، ويزداد عدد أتباعه؛ ليصل بذلك إلى مآرب نفسه القبيحة، ويستكمل به نقصها الذي دعاه للافتراء على الله، وخداع الناس؟!

 

وأما في التفصيل فنتناول جانبين:

الأول: أخلاقية الشريعة.

الثاني: الباعث على التشريعات.

أما الجانب الأول، وهو أخلاقية الشريعة، فلا ريب أن أخلاقية الشريعة من حيث الجملة محل اتفاق بين المناصرين والخصوم، فلا خلاف في ذلك، فإن أبا سفيان بن حرب عندما كان كافرًا لما سأله هرقل ملك الروم عما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، أجاب بأنه يأمرهم بالصدق والعفاف وصلة الرحم…؛ إلى آخره.

 

وليس من ريب أن خصوم اليوم أيضًا لا ينازعون في أخلاقية الشريعة من حيث الجملة، وأنها تدعو إلى الفضائل، وإنما يعيب خصوم اليوم من ذوي التوجه الليبرالي واليساري على الشريعة المحمدية أنها تُؤثِر الأخلاق والفضيلة على الحريات الشخصية، وأنها تُعْلِي القيمة على اللذة الحسية، وأنها تحرم الإنسان من كثير من الشهوات الجسدية، وفي ذلك وصاية على الإنسان وعلى عقله ورشده.

 

أو يعيبون عليها أنها لا تحقق العدل والمساواة – من وجهة نظرهم – في بعض الصور، كما في مساواة المسلم بغيره، أو الرجل بالمرأة في الحقوق والواجبات جميعًا.

 

وإذا كانت الشريعة بهذه الأخلاقية محل الاتفاق، فالسؤال المطروح حتمًا: ما الذي يجعل رجلًا ارتكب أكبر جريمة أخلاقية – وهي الكذب على الله وعلى الناس بادعاء النبوة – أن يتبنَّى هذا الأنموذج الأخلاقي في تشريعاته تبنيًا صارمًا مطردًا ثابتًا، بحيث لا تنخرم هذه الأخلاقية في تضاعيف التشريعات المختلفة، وبحيث تصبح تلك الأخلاقية بمثابة القواعد الحاكمة لجزئيات التشريعات المختلفة؟!

 

إننا لا ننكر أن الكَذَبة المدَّعِين قد يتمسحون في الفضيلة والأخلاق، ويرفعون لافتاتها لخداع العامة والدهماء، والوصول إلى مآربهم الحقيرة، لكننا في الوقت نفسه نجزم أن استعمال الكذبة المدعين لشعارات الفضيلة والأخلاق لا يكون إلا بالقدر الذي يتمكَّنون به من تحقيق مآربهم، والوصول إلى غاياتهم، وأنهم سرعان ما ينكشفون أمام الناس عند أول اختبار أخلاقي حقيقي، فتجدهم يلقون الشعارات الأخلاقية وراء ظهورهم، ويُظْهِرون الوجه الحقيقي لانتهازيتهم وخِسَّة نفوسهم، وهذا مشاهَد ومسجَّل عند الناس، وأقرب أمثلته الواقعية الشعارات التي يطلقها السَّاسة قبيل الاستحقاقات الانتخابية، وما يفعلونه بعد الوصول إلى السلطة.

 

وأما ما نحن فيه من الأخلاقية في الشريعة المحمدية، فواقع الحال أننا لسنا أمام بعض شعارات رنانة يمكن أن تصدُرَ من أكثر الناس بعدًا عن الأخلاقية، ومن أكثرهم انحطاطًا بغرض التلبيس والمخادعة.

 

كلا، إننا أمام بناء أخلاقي مطرد في التشريعات، يتمكن الفقهاء المسلمون إلى اليوم عبر استقرائه من الحكم على الوقائع بالحل أو الحرمة، بالسواغية أو المنع، بالاستحباب أو الكراهة، عن طريق تلك (الأخلاقية) المنتشرة في جَنَبات الجزئيات التشريعية، التي صارت بمثابة الضابط الكلي لجميع الجزئيات التي لا نصَّ فيها، ولجميع الوقائع التي تستحدثها تغيرات الحياة، واختلاف الأزمنة، وتنوع المجتمعات والبيئات.

 

إننا لسنا أمام رجل قال كلمة يمدح بها الصدق، أو يذم بها الكذب، وانتهى الأمر.

كلا، بل إننا أمام شريعة تجعل من تحقق الصدق أو الكذب مناطًا لجواز المعاملات أو تحريمها.

إننا أمام شريعة تحرم الكذب في الحديث، وتحرم الغش والخداع في المعاملات والعقود.

 

شريعة تضافرت نصوصها على تحريم الكذب، حتى إن الفقهاء لَيختلفون في حكم الكذب الذي لا يترتب عليه إضرار بأحد، كما في الكذب في المزاح أو الإبداع الأدبي وما شابه ذلك.

 

شريعة قائمة على الصدق، فتتضافر نصوصها على تحريم الغش والتدليس في المعاملات الاقتصادية؛ حتى يكون وجود الغرر – وإن كان عن غير قصد – كفيلًا ببطلان المعاملة، والمنع منها.

 

فما الذي يحمل رجلًا كاذبًا مُدَّعيًا إلى الوصول إلى هذه الدرجة من الأخلاقية الصارمة في دين يخترعه بلا رقيب ولا حسيب عليه من أحد؟!

 

وقبل ذلك كله وبعده يُلزِم نفسه بتلك القواعد إلزامًا صارخًا في حياته الشخصية والعامة، وفي وقت سلمه، ووقت حربه، وفي وقت رضاه، ووقت سخطه، كما تقدم ذلك معنا عند الكلام عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ودلالتها على صدقه.

 

ما الذي يحمل كاذبًا مدعيًا أن يأتي بشريعة تحارب التكبر والتعالي على الناس، ويسوق في ذلك نصوصًا مختلفة، ويحمل نفسه على التواضع الجم الصادق في جميع المواطن، وفي كل الأطوار؟!

 

ماذا يحمل كاذبًا مدعيًا أن يأتي بشريعة تحارب الفخر بالأحساب والأنساب، والاستطالة على الآخرين بذلك، وممارسة العنصرية ضد الضعفاء والمساكين وذوي الأنساب المتواضعة؟!

 

وهذا الرجل نفسه من أشرف العرب نسبًا، وأنبلهم قبيلة، وأرفعهم مكانة اجتماعية، وهو ليس في إعواز من الشرف والنسب، حتى يقول قائل: إنه فعل ذلك لينفرد بالسُّؤْدَد، وليحصل له الاستقلال بالمكانة والوجاهة دون غيره من الوجهاء والأشراف.

 

ما الذي يحمل كاذبًا مدعيًا مخادعًا لله وللناس على الانحياز إلى الفقراء والمساكين والضعفاء، وسرد النصوص التي لا تُحصى كثرة حضًّا على الرفق بهم، ومساعدتهم، والإحسان إليهم، والسعي الحثيث في نفعهم بوجوه النفع المختلفة، والنهي عن إيذائهم ولو بالكلمة والإيماءة، والوعيد على التخلي عنهم، وعدم القيام بالواجب الاجتماعي حيالهم؟

 

ما حاجة الكذاب المدعي إلى هذا المسلك الأخلاقي، مع إلزام النفس به إلزامًا شديدًا في جميع أحواله وأطواره من سَعَةٍ وضيق، وغنًى وفقر؟!

 

أي نبل أخلاقي أحاط برجل كذَّاب مُدَّعٍ للنبوة بهتانًا وزورًا أن يعاديَ الظلم بجميع صوره وأشكاله معاداةً صارخةً لا هوادة فيها، وأن ينحاز للعدل انحيازًا كاملًا، حتى صار ذلك قاعدة عامة لشريعته، فيحملها طلبها للعدل ومحاربتها للظلم أن تحرم صورًا وأشكالًا من المعاملات الاقتصادية الرائجة في كل الأزمنة؛ لكون تلك المعاملة فيها ظلم لأحد الطرفين، حتى إن كان المظلوم راضيًا عن هذا الظلم، كما في تحريم الربا بصوره المختلفة على نحو لم تأتِ به شريعة سابقة، ولم تتابعها عليه الشرائع البشرية المعاصرة؟!

 

وقبل ذلك وبعده تكون سيرة ذلك الرجل الآتي بهذه الشريعة تعبيرًا صادقًا عن هذا الانحياز إلى العدل، والمجانبة للظلم، في القليل والكثير؟!

 

أنَّى للكذاب المدعي وتلك الشمائل الأخلاقية في سيرته وشريعته على حد السواء تنتشر انتشارًا ظاهرًا مطردًا مُتَّسقًا؟!

 

وأما الجانب الثاني، فهو: الباعث على التشريعات؛ وذلك أن العقل قاضٍ بأن المدعي للنبوة كذبًا أو حتى لغيرها من الدعوات؛ كادعاء المهدوية أو الولاية، لا بد أن يكون همه وشاغله فيما يُحدِثه من تشريعات، ويسُنُّه من قوانين أن تصب هذه التشريعات وتلك القوانين في خدمة دعوته الكاذبة، وأن تزيد في سلطانه وسيطرته على أتباعه، وألَّا يكون في تلك التشريعات والقوانين ما يناقض هذا الهدف الرئيس في صلبه أو في ثمرته؛ أي تصديقه في دعواه الكاذبة، وجذب المزيد من الأتباع إليها.

 

ومن أمثلته أيضًا ما هو مشاهد في عالم السياسة؛ حيث يسعى الديكتاتور أول وصوله إلى السلطة، إلى تدبيج الدساتير والقوانين بما يطيل بقاءه في السلطة، وبما يسمح له بمباشرة البطش بالخصوم؛ حيث يغير من القوانين والتشريعات القائمة ما يمنعه من الوصول إلى تلك الغاية، وتصبح هذه معركته وقضيته، ولا يلتفت إلى ما سواها من القضايا إلا بالقدر الذي يساعده في الوصول إلى غايته، وتحقيقها، والمحافظة عليها إذا تحققت.

 

وكان المفترض في الحالة المحمدية حال صحة زعم الخصوم بكذب محمد في دعواه – حاشاه – أن تتمركز التشريعات المحمدية حول إحكام سيطرة محمد على السلطة، وتقوية دعوته ودولته، وإغراء الناس بالانضمام إليها، والابتعاد عما ينفرهم منها، وعدم الاهتمام بشأنهم الاجتماعي إلا بالقدر الذي يتمكن به محمد من السيطرة عليهم، وإخضاعهم لسلطته ودولته، وأما فيما عدا ذلك؛ فكان ينبغي عليه أن يترك الناس وشأنهم في تلك الأمور، ما دام ذلك لا يؤثر سلبًا على دعوته أو سلطته، فإن شأن كل كذَّاب مُضِل أن يتمركز حول ذاته ومصالحها، ولا يلتفت إلى الآخرين، إلا بالقدر الذي يخدم به نفسه ومصالحها ومنافعها.

 

لكننا إذا نظرنا إلى واقع الحالة المحمدية، لا نجد الأمر على ما يقتضيه هذا التصور المفترض، بل نجد الجانب الأخلاقي على ما تقدمت الإشارة إليه آنفًا، ونجد كذلك تشريعات اجتماعية وشخصية لا طائل منها، ولا محل لوجودها من الإعراب حال افتراض كون محمد كاذبًا – حاشاه – بل إننا نجد تشريعات تُضادُّ السيطرة المحمدية، وقد تنفر من الدعوة المحمدية، وتضر بالأطماع الشخصية لصاحب الدعوة حال كونه كاذبًا.

 

فأما التشريعات المتعلقة بالجانب الأخلاقي، فقد تناولنا ذلك في مطلع هذه المقالة، ونزيد هنا أن نقرر أن كل تشريع أخلاقي في الدعوة المحمدية حال كذب صاحبها – حاشاه – لا مبرر له، ولا معنى منطقيًّا لوجوده، إلا إذا كان وجوده بالقدر الذي يخدم الدعاية الكاذبة، ويوهم الناس بنبوة صاحب الدعوة، وقد قدَّمنا أنه كان يكفي من ذلك النزر اليسير الذي يحصل به تجميل وجه الدعوة وصاحبها، أما التغلغل الأخلاقي في التشريعات المحمدية، وفي سيرة صاحبها، فلا مبرر منطقيًّا له إلا صدق صاحب الدعوة، وأن تلك الدعوة ليست من عند نفسه، وأن صاحبها يرمي إلى تكوين أنموذج أخلاقي في تشريعاته يعيش أبد الدهر، وليس بضعة شعارات يستميل بها رجل كذَّاب معاصريه؛ ليصدقوه فيما يزعمه ويدعيه.

 

وأما الجانب الآخر؛ وهو التشريعات الاجتماعية أو المتعلقة بالحياة الخاصة بالأفراد؛ فهذا من أظهر ما يكون على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في ادعاء النبوة؛ فإننا لا نعلم باعثًا منطقيًّا لهذه الجملة الكثيرة من التشريعات الاجتماعية والشخصية في الشريعة المحمدية، التي لا تعلق لها بالجانب السياسي، فهي بعيدة كل البعد عن أن يكون لها ثمرة سلطوية، يستفيد بها مدعي النبوة، إن كان كاذبًا في دعواه.

 

ولقد كان يكفي محمدًا صلى الله عليه وسلم لو كان كاذبًا في دعوى النبوة، أن يترك الناس على ما هم عليه تشريعات متوارثة في الجانب الاجتماعي والشخصي، ولا يقتحم هذا الجانب ليضيق عليهم هذا التضييق؛ فإنه من المعلوم أن الشريعة الإسلامية هي أكثر الشرائع تناولًا للجانب الشخصي والاجتماعي.

 

إن لأصحاب العقول أن يتساءلوا:

ما الباعث الذي يحمل رجلًا يدعي النبوة كذبًا أن يضيِّق الخِناقَ على أتباعه، فيُلْزِمهم بالاقتصار على أربع زوجات؟!

 

وما الباعث الذي يجعله يحرمهم من زوجاتهم بعد الطلاق الثالث، وأنه لا سبيل إلى الالتقاء بعد الطلاق الثالث إلا بزواج المرأة برجل آخر، ثم موته أو طلاقها منه؟

 

وما الباعث المنطقي في تحريم المرأة على زوجها إذا قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي أو أختي؟

 

ألَا كان يَسَعُ مدعي النبوة كذبًا أن يترك أمور الزواج والطلاق على ما كانت عليه العرب، وعلى ما يألفه الناس في زمانه؟!

 

ألم يكن الجدير به أن يوسِّع على متبعيه وأصحابه فيما ضيقت عليهم التشريعات القائمة قبله، لا أن يقوم بالعكس ويضيق عليهم فيها؟!

 

من حق صاحب العقل أن يسأل:

ما الجدوى السياسية، وما العائد السلطوي على مدعي النبوة كذبًا من تحريمه على أصحابه ومتبعيه إتيان نسائهم إبان الحيض، أو ممارسة الجنس معهن في الدبر؟!

 

وأي ضير كان سيلحق دعوته وسلطته ودولته لو أباح لهم إتيان النساء في المحيض، أو في الأدبار؟!

 

تُرى هل أخبرته الأبحاث الطبية في عصره بالتأثيرات الطبية لهاتين الممارستين فراح يحرمها على أتباعه، أم هل يملك الكاذب المدعي ضميرًا أخلاقيًّا يشفق به على الآخرين ابتداء؟!

 

وأما الجانب الثالث؛ وهو التشريعات التي فيها تنفير عن الدعوة، أو إضرار بها، أو بأتباعها بوجه من الإضرار، فما أكثر ذلك! وما أوسع انتشاره!

 

ولنفتتح أمثلة ذلك بتحريم الخمر، ولقد كان شربها عادة مجتمعية متوارثة ومتأصلة في المجتمع العربي، حتى إن تحريمها في الشريعة الإسلامية لم يحصل دفعة واحدة، بل احتاج إلى تدريج في التشريع وصولًا إلى حصول الاستجابة المجتمعية للتحريم.

 

فنقول: ما الباعث وراء تحريم الخمر عند مدعي النبوة كذبًا؟ وما مصلحته في تحريمها؟

أليس تحريمها – وهي العادة المجتمعية المتأصلة – فيه مشقة على الناس الذين يريدون الدخول في دين هذا الرجل الكاذب؟! أليس في تحريمها تنفيرٌ لهم من دخول هذا الدين لحرمانهم من هذه اللذة؟!

 

إن الواقع يخبرنا أن تحريم الخمر كان بالفعل عائقًا أمام البعض من دخول الإسلام، كما في قصة الشاعر الجاهلي الشهير (الأعشى)، الذي همَّ بالذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام، لكنه رجع من الطريق لما علم أن الإسلام يحرم الخمر، وكان الرجل مولعًا بها، مدمنًا إياها.

 

فما الذي حمل محمدًا صلى الله عليه وسلم لو كان كاذبًا على مثل هذا التشريع المنفِّر عن دعوته؟!

 

ومثل هذا يُقال في تشريع الصوم، فما الجدوى من فرض صيام شهر كامل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس على الأتباع، وفي الصوم من المشقة على النفوس والأجساد ما هو معلوم، ولا يحتاج إلى التدليل عليه؟!

 

أما كان الأليق بمدعي النبوة كذبًا إن كان لا بد فاعلًا ومشرعًا للصوم، أن يجعله يومين أو ثلاثة، بحيث لا يشق على أصحابه، ولا ينفرهم من دعوته الكاذبة؟!

 

وانظر إلى فرض الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، وكيف أن الرجال مطلوب منهم أن يؤدوها في المساجد جماعة، ومعلوم ما في ذلك من مشقة وتعطيل عن العمل لمن كان نظرته للأمور نظرة دنيوية محضة، وهي النظرة المتوجبة على مدعي النبوة كذبًا بلا ريب.

 

وقُلْ مثل ذلك في محظورات الإحرام؛ وهي الأشياء التي يُمنَع المحرِم – وهو الشخص الذي يقوم بأداء العمرة أو الحج – من ممارستها حال إحرامه.

 

فما الضير أو الضرر الواقع على الدعوة المحمدية حال كذب صاحبها من إباحة أن يلبس المحرم في نسك الحج والعمرة ثيابًا مخيطة، أو يقص أظفاره، أو يأخذ من شعره، أو يضع طيبًا قبل أن يفرغ من نسكه أو يستمتع بزوجه؟

 

بل هناك ما هو أشد من ذلك في أمر الحج: فقد جاء في القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [المائدة: 95].

 

فالإنسان الْمُحْرِم ممنوع من اصطياد الحيوانات البرية من وقت دخوله في الإحرام، وإلى وقت خروجه منه، وفي الزمن القديم وتبعًا لوسائل المواصلات في ذلك الوقت، كانت مدة الإحرام تستغرق وقتًا من بداية الميقات الذي يدخل الناس فيه في النسك والإحرام إلى وقت انتهائهم من أداء نسك الحج أو العمرة، فكانت الرحلة من ميقات المدينة – مثلًا – إلى مكة تستغرق أكثر من أسبوع كامل، يقطع المسافر فيها الصحراء، ويحتاج إلى الطعام، وكان الصيد في ذلك الزمان مصدرًا رئيسًا من مصادر الطعام عندهم.

 

فنسأل: ما الفائدة التي تعود على الكذاب المدعي وعلى دولته ونفوذه، إذا منع أصحابه من تناول طعام الصيد طوال هذه المدة، وفي تلك المسافة الطويلة؟

 

إننا نجد محمدًا صلى الله عليه وسلم يمتنع هو نفسه من تناول الصيد حال الإحرام، مع أن هذا الصيد جاءه في صورة هدية من أحد سكان المناطق التي مَرَّ بها في طريق حجِّه، بل الأغرب من ذلك أن تكون هناك عقوبات مالية كبيرة على من يقتل الصيد ليأكله وينتفع به، فهل يفعل كذاب مُدَّعٍ هذه الأمور، وهل يليق به أن يتصرف بما فيه إعناتٌ لنفسه ولأتباعه في غير طائل ولا فائدة؟!

 

وما سُقْناه من استفهام في أمر الحج نسوقه في أمر الجهاد نفسه، مع أن للمكذب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يدفع بأن في الجهاد وقتال الأعداء فائدة على الدعوة المحمدية؛ ألا وهي حفظ هذه الدعوة، وقيام دولتها، بقطع النظر عن صدق صاحبها أو كذبه.

 

لكننا نقول: إن في تضاعيف هذا التشريع؛ أعني تشريع الجهاد وقتال الكفار، ما يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الدين ليس من عنده، بل من عند الله.

 

ذلك أن الشريعة الإسلامية قد أمرت بالمحافظة على الصلاة حال القتال، وعدم تركها تحت أي ظرف، وجاءت بلزوم أدائها بحسب الحال؛ إما جماعة أو فرادى أو حال المشي حتى!

 

فنسأل:

ما المبرر المنطقي والعقلي لرجل كاذب أن يأمر أتباعه بالمحافظة على الصلاة حتى في هذا الموضع؛ موضع القتال، الذي ربما يهزم فيه جيشه، ويضيع فيه سلطانه وملكه؟!

 

أليس المنطقي أن يبادر الكذاب المدعي أن يقول لأتباعه: إن الله وضع عنا الصلاة حال الحرب، ولم يأمر بها، ما دمنا في قتال مع أعداء الله؛ وذلك لنتفرغ للقتال، وبعد ذلك نعود إلى الصلاة والعبادة؟!

 

أليس مثل هذا القول هو أنفع له ولسلطانه ولدعوته من تشريع الصلاة وقت القتال، وإلزام نفسه وأتباعه بها، حتى في حالة الحروب التي قد تتعرض فيها دعوته ودولته للزوال؟!

 

والحق أنه يطول جدًّا تعقُّبُ الأمثلة لجزئيات التشريع التي تصبح بلا معنى ولا فائدة، أو تلك التي تجلب ضررًا وحرجًا على أتباع الدعوة، حال افتراض كذب صاحب الدعوة وانتحاله لصفة الرسالة والنبوة، وإنما أردنا بما ذكرناه من أمثلة التدليلَ على دعوانا أن نفس التشريعات الإسلامية، وما فيها من كُلفة ومشقة، مع تنوعها وتوغلها في حياة الفرد والمجتمع – لا يتأتَّى صدورها عن متنبئ ولا دعِيٍّ أفَّاك؛ إذ الإفك والكذب يتعارض مصلحيًّا ونفعيًّا كل التعارض مع تلك التشريعات الإسلامية المختلفة، التي تأخذ من حياة الناس ومصالحهم الدنيوية في سبيل مصالحهم الأخروية، ومعلوم أن مصلحة الكاذب وهدفه وغايته في معزل وتعارض عن جميع ذلك.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى