مقالات

مواقف من خلال غزوة بدر


مواقف مِن خلال غزوة بدر

لماذا لم يخرج عدد أكبر لغزوة بدر؟

كانت الدعوة من أجل التصدي لقافلة أبي سفيان، وظن كثير من المسلمين أن الأمر لا يعدو أن يكون مشابهًا لما سبقه من الخروج للتصدي لتجارة قريش، ولم يكن الأمر ملزمًا – كما صار فيما سيتلو من غزوات، وأن التخلف عنها لغير عذر سيعُدُّ المتخلِّف من المنافقين – لذلك نجد هذا التبرير في قول سعد بن معاذ عندما تكلم باسم الأنصار، فبعد أن تكلم في المضي مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله وأنهم بايعوه على المنشط والمكره وقتال من شاء ومسالمة من شاء، قال: إنا قد خلفنا من قومنا قومًا ما نحن بأشد حبًّا لك منهم، ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا يا رسول الله أنك ملاقٍ عدوًّا ما تخلفوا، ولكن ظنوا أنها العير، وقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلَّفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب الله أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، وقال أسيد بن الحضير عندما استقبل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من غزوة بدر: يا رسول الله، الحمد لله الذي ظفرك، وأقر عينك، والله يا رسول الله، ما كان تخلُّفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًّا، ولكني ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدقتَ))، وقال عبدالله بن أنيس حيث لحق بالمسلمين فلقي رسول الله بتربان – مكان – وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدًا -: يا رسول الله، الحمد لله على سلامتك وما ظفرك، كنت يا رسول الله ليالي خرجت مورودًا – مصابًا بالحمى – فلم يفارقني حتى كان بالأمس، فأقبلتُ إليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آجرك الله)).

 

ما حدَث للأعرابي؟

لما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرق الظبية – وهم في طريقهم إلى بدر – لقوا رجلًا من الأعراب، فسألوه عن القافلة، فلم يجدوا عنده خبرًا، فقالوا له: سلم على رسول الله، قال: أوَفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم: فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه، قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله، وأقبل عليَّ، فأنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَهْ! أفحَشْتَ على الرجل))، ثم أعرض عن سلمة.

 

هذا الخبرُ فيه دروس عظيمة للمسلمين، منها: أنه ينبغي في وقت الجد البُعد عن المزاح، وأن المزاح لا ينبغي أن يكون مسفًّا لهذه الدرجة بحيث يتهم هذا الأعرابي بإتيان الناقة حتى أسكته النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مَهْ! أفحَشْتَ على الرجل))، وأنه أساء التصرف أيضًا؛ حيث تولى هو الإجابة، والأعرابي كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي قد تعود مثل هذه الأسئلة، وكان يجيب عليها بحكمته المعروفة، فكان خطأ سلمة من عدة وجوه، وكان عليه أن يدرك الموقف، ويقدر الظرف الذي هم فيه حق التقدير، فالمعركة وشيكة، وفيها تزهق الأرواح، والموقف يتطلب الجد والالتجاء إلى الله، والتقرب بالعمل الصالح، لا الهذر واللغو والكلام القبيح، وكذلك الإصغاء إلى القادة وعدم التدخل والإجابة عنهم، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى الحرية لأتباعه، فليس معنى هذا أن تكون مطلقة، وإنما تقف عند حد لا يمكن تجاوزه، فكان الأولى أن يجيب على سؤال الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن سلمة أخطأ ثانية ولم يأبَهْ لما فعل مع الأعرابي، فلما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهنَّأه الصحب بهذا الانتصار، ردَّ سلمة على الناس بقوله: ما الذي تهنئونا به؟ فوالله ما قتلنا إلا عجائز صلعًا، فتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((يا بن أخي، أولئك الملأ لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرتَه، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم))، فقال سلمة: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، إنك يا رسول الله لم تزل مني معرضًا منذ كنا بالروحاء في بدأتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَّا ما قلتَ للأعرابي: “وقعتَ على ناقتك فهي حبلى منك”، ففحشت، وقلت ما لا علم لك به، وأما ما قلت في القوم، فإنك عمدت إلى نعمة من نعم الله تزهِّدها))، فاعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبِل منه معذرته، فكان مِن علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد.

 

إن التقليلَ من قوة الخصم في المعركة واحتقارها، هو تقليلٌ من قوة المنتصر عليه، فإذا كان الخصم ضعيفًا فما قيمة المنتصر عليه؟ لقد نسِي سلمة أن الله تعالى قد أيَّد نبيه تأييدًا مطلقًا في هذه الغزوة، وأمدَّه بالملائكة، وقذف الرعب في قلوب المشركين، وبهذا يكون ربُّنا قد سلمهم للمسلمين لقمة سائغة ما عليهم إلا أن يمضغوها، وإلا غكيف هزمت هذه القلة في العدد والعدة هذا الجمع المستعد بهذه النتيجة؟ ثم يأتي سلمة، فيقول للناس: ما لقينا إلا عجائز صلعًا، ونسي جبروت أبي جهل ومن كان معه، ونسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويتضرع إلى الله أن ينصر هذه الفئة المؤمنة، وأنه كان يقول: ((إن تَهلِكْ هذه العصابة، فلن تُعبَد في الأرض))؛ وذلك لِما يعرف من سطوة قريش.

 

السقاة وضربهم لاستجوابهم:

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من الصحابة ليأتوه بخبر قريش، فوجدوا على بئر الروحاء سقاة لقريش، فأخذوا الأسقية وأمسكوا بعدد منهم، وأتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فأخذوا يسألونهم عن القافلة وهم يجيبون أنهم مع جيش لقريش، فلم يصدقوهم وأخذوا يضربونهم إلى أن قالوا لهم ما يرضيهم، وهو أنهم مع أبي سفيان، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم مِن صلاته قال لهم: ((إذا صدَقوكم ضربتموهم، وإن كذَبوكم تركتموهم)).

 

هذه الحادثة تبيِّن أن الذين تولوا الاستجواب لم يكونوا على دراية به، وكانوا متأثرين بفكرة الاستيلاء على القافلة، وفي ذهنهم أنه لا يوجد حدث غيرها؛ ولذلك كان اتجاههم في الاستجواب وَفْقَ مفهوم لا محيد عنه، يريدونهم الإقرار به، على الرغم من أن الأمر الذي طرأ أخطر من أمر القافلة، إلا أنهم لم يلتفتوا إليه ومر على آذانهم دون أن يعيروه سمعهم، وكانوا سيفوتون أمرًا مهمًّا لولا أن تداركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفيد هذا أن على من يستجوب أن يعرف طبيعة المتسجوبين وإن كان لهم غرض في إخفاء المعلومات، فهؤلاء سقاة سذَّج ليسوا أصحاب مصلحة، أجراء على سجيتهم، فقالوا ما عندهم بعفوية، وكذلك لا ينبغي استعمال العنف في الاستجواب، بل ابتداع أمور في التحقيق توصل إلى المعلومة من الخصوم، وهذا يتوقف على ذكاء المستجوب.

 

التَّوريَة على الأعداء:

لقي النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا قريبًا من بدر، فقال له: من الرجل؟ فقال الرجل: بل من أنتم؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فأخبرنا ونخبرك))، قال: أنا سفيان الضمري، ثم قال: فسلوا ما شئتم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخبرنا عن قريش))، قال الضمري: بلغني أنهم خرجوا يوم كذا وكذا من مكة، فإن كان الذي أخبرني صادقًا فإنهم بجانب هذا الوادي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأخبرنا عن محمد وأصحابه))، قال: خبرت أنهم خرجوا من يثرب يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صادقًا، فهم بجانب هذا الوادي، قال الضمري: فمن أنتم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحن من ماء))، وأشار بيده جهة العراق، ثم انصرَف.

 

النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا صدقًا، والإنسان مخلوق من ماء، وقد أخذ منه الأخبار التي يريدها، ولم يعطِه شيئًا.

 

الحذر وإخفاء الأثر:

ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء عينًا؛ لكي يكتشفا خبر أبي سفيان، ووصلا إلى ماء في بدر، فأناخا ثم سمعا جاريتين تخبر إحداهما الأخرى عن قرب وصول قافلة أبي سفيان غدًا أو بعد غد، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فقال لها: صدقت، فعادا ليخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر، وأتى أبو سفيان بعد ذلك إلى المكان مستطلعًا، وسأل مجدي بن عمرو الجهني إن كان رأى أحدًا من أصحاب محمد، فأجاب بالنفي، لكنه قال: قد أناخ رجلان هناك، فذهب أبو سفيان وأمسك بعر الناقتين وفركها فرأى فيها نوى، وهو علف أهل يثرب للإبل، فعلم أن محمدًا وأصحابه قرب هذا المكان، فأسرع وغيَّر طريقه.

 

فهذا الخبر يدل على غفلة من قِبل بسبس وعدي، نعم لقد نجحا في أمر وأخفقا في الآخر، نجحا في معرفة خبر القافلة، لكن أغفلا إزالة أثرهما أو أثر بعر ناقتيهما ولم يعيرا لهذا الأمر أهمية، وعليهما أن يعلما أنه مثلما كانا عينًا للمسلمين فإن العدو له عيون أيضًا، وعليه فالعدو استفاد من هذا الأثر فائدة كبرى فغيَّر الطريق ونجا بالقافلة.

النزاع الخفي في جيش قريش:

من خلال متابعة الأحداث نجد أن هناك نزاعًا بين زعماء قريش؛ فأبو جهل الذي يقود الناس لم يحظَ بالإجماع، وإنما قادهم بالتسلط والتخويف، وكان النزاع ظاهرًا بين أبي جهل وعتبة بن ربيعة؛ مما دفع الأخير إلى طلب المبارزة هو وأخوه وابنه فرارًا من الانضواء تحت قيادة أبي جهل، وقد أثر هذا الخلاف على سير المعركة والتنسيق بين زعماء قريش، إضافة إلى أن خروجهم كان بطرًا ورياءً، فكان الخزي والهزيمة نصيبهم.

 

النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من المقاتلين عدم التعرُّض لأشخاص سماهم:

كان هذا الطلب لفتةً كريمة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبعض هؤلاء الأشخاص لم يشاركوا في إيذاء المسلمين، بل كانوا يكرهون ما يفعله القساة من زعماء قريش؛ فأبو البختري بن هشام كان أحد الذين سعوا لتمزيق صحيفة المقاطعة، وعمه العباس أخرج مكرهًا، وهو مع المسلمين قلبًا وقالبًا، لكن خرج مِن بين المسلمين مَن اعترض على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من المهاجرين “أبو حذيفة بن عتبة”، فقال: أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيتُه لأُلحمنَّه السيف، وهذا موقف ندم عليه أبو حذيفة، وربما كان خفق قلبه مع أبيه وأخيه متمنيًا لهما الإسلام وكانا مع عمه شيبة من أوائل صرعى بدر في المبارزة التي جرت عند بدء المعركة، وعندما نقل قتلى المشركين وألقوا في القليب، وأُخذ عتبة بن ربيعة فسُحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغيَّر، فقال: ((يا أبا حذيفة، لعلك دخلك من شأن أبيك شيء؟))، فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيًا وحِلمًا وفضلًا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك.

 

عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:

عاد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاستُقبل خير استقبال، وكان معه الأسرى، وكان هناك رأي في قتلهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى مفاداتهم، ووزعهم بين أصحابه وقال: ((استوصوا بالأسرى خيرًا))، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه بشأنهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرَض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس))، فقام عمر فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله، نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، وأنزل الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾} [الأنفال: 67 – 69]، فكان الوحي مؤيدًا رأي عمر، وفيه عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الله قد كتب أنه سيحل المفاداة لكان مس مَن قبِل العفوَ عن الأسرى بالعذاب، وأنه لا يعذب على الاجتهاد فيما لم يرد به نص، وبعد هذا العتاب الشديد أحل الله ما فعلوه ﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 69]، وفي سورة “القتال” – محمد – قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد: 4].

 

قتل عدد مِن الأسرى كانوا ممن آذى المسلمين:

في منطقة الصفراء وفي طريق العودة إلى المدينة حتى إذا كانوا بعرق الظبية أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُضرَب عنق عقبة بن أبي معيط، فجعل عقبة يقول: يا ويلي، علامَ أقتل يا معشر قريش مِن بين مَن ها هنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعداوتِك لله ورسوله))، وأراد أن يرقق قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من للصبية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((النار))، ثم أمر عاصم بن ثابت، فضرب عنقه، وقال: ((بئس الرجل كنت، والله ما علمت كافرًا بالله وبرسوله وبكتابه مؤذيًا لنبيه، فأحمد الله الذي هو قتلك وأقر عيني منك))، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما فعل هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي، وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران – تخرجان – وجاء مرة أخرى بسلاة شاة – ما يخرج منها بعد الولادة – فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي))، ولما نزلوا شعب الصفراء أمر بضرب عنق النضر بن الحارث، ضرب عنقه علي بن أبي طالب، وكان هذان الرجلان من شر عباد الله، وأكثرهم كفرًا وعنادًا وبغيًا وحسدًا، وهجاء للإسلام وأهله، وقد رثته أخته قتيلة:

 

وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع هذه الأبيات رق لها وقال: ((لو بلغني هذا قبل قتله، لمننتُ عليه)).

 

نماذج من الأسرى الذين فدوا أنفسهم:

كان من بين الأسرى أبو عزيز بن عمير، وهو أخو مصعب لأبيه وأمه، مر به مصعب وهو موثق عند الأنصار، فقال مصعب لأبي اليسر الذي أسره: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع؛ لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز: يا أخي، هذه وصايتك بي، وقد فادته أمه بأربعة آلاف درهم، وهو أغلى فداء فُدي به قرشي، وكان من بين الأسرى أبو وداعة بن ضبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن له بمكة ابنًا كيسًا تاجرًا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه))، وكان أبو سفيان قد طلب التأني في فداء الأسرى؛ كيلا يغالي المسلمون في الفداء، لكن ابن أبي وداعة تسلل إلى المدينة ودفع أربعة آلاف درهم فداء أبيه، وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا يؤذي المسلمين بخطابه، فقال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنيتيه فلا يقوم عليك خطيبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه))، وقد قام خطيبًا فيما بعدُ عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس وثبتهم على الدين الحنيف، وأما أبو سفيان فقد قتل ابنه حنظلة، وأسر ابنه عمرو، وقال: لا أفديه وأجمع على دم ومال، فليمسكوا به ما بدا لهم، لكنه وجد مخرجًا؛ حيث صادف أن سعد بن النعمان من الأنصار كان في مكة يؤدي العمرة، فأخذه أبو سفيان رهينة مقابل ابنه، مخالفًا أعراف العرب، ففاداه المسلمون بابنه، وكان في الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان نعم الزوج لها، وهو ابن خالتها، وكانت قريش قد طلبت منه مفارقة زوجته وتطليقها فأبى، بينما نجد عمه أبا لهب قد أمر ابنه عتبة أن يطلق رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم فطلَّقها بحجة أن يشغَلوا محمدًا بنفسه، وهنا بعثت زينب بمال، وفيه قلادة كانت خديجة قد أهدتها لابنتها بمناسبة زواجها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها وقال: ((إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا))، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها مالها، وأخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب لتأتي إلى المدينة، وفادى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وابني أخويه عقيلًا ونوفلًا بمائة أوقية ذهبًا، وهناك أسرى مَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم دون فداء، ومنهم أبو عزة، فقال: تعرف أني فقير لا مال لي وعندي بنات، فمنَّ عليه مشترطًا ألا يشارك في القتال مرة أخرى، وروي أنه شارك في أحد ثم قبض عليه وقُتل لمخالفته الشرط، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة: ((كيلا تمسح عارضيك في مكة وتقول: خدعت محمدًا مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين))، وكان مِن بين أسرى بدر وهب بن عمير وأبوه عمير بن وهب من شياطين قريش وممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، فجلس مع صفوان بن أمية في الحِجر بعد مصابهم في بدر يذكرون أصحاب القليب، وأنه لا خير في العيش بعدهم، فقال لصفوان: لولا دَين عليَّ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله؛ فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان وقال له: عليَّ دَينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال عمير: فاكتم عليَّ شأني وشأنك، قال: سأفعل، وأمر عمير بشحذ سيفه مع سقايته السم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ بباب المسجد متوشحًا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه، قال: ((فأدخله عليَّ))، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها وقال لمن معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذَروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: ((أرسله يا عمر، ادن يا عمير))، فدنا، ثم قال: أنعم صباحًا – وهذا سلام الجاهلية – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أكرمنا الله بتحية خيرٍ من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة))، قال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد، قال: ((فما جاء بك يا عمير؟))، قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه، قال: ((فما بال السيف في عنقك؟))، قال: قبَّحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئًا؟ قال: ((اصدقني، ما الذي جئت له؟))، قال: ما جئت إلا لذلك، قال: ((بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَين عليَّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمَّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك))، فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان؛ فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقِّهوا أخاكم في دينه، وعلموه القُرْآن، وأطلقوا له أسيره))، ثم قال: يا رسول الله، كنت جاهدًا في إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام؛ لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، وكان صفوان يأمل في أن ينجح عمير في مهمته ويمني نفسه والآخرين بحدوث شيء عظيم يقوض الإسلام، لكنه فوجئ بإسلام عمير، فأقسم ألا يكلمه ولا ينفعه، ثم قام عمير يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه عدد لا بأس به.

 

ومنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على عدد من الأسرى دون فداء، وعلى آخرين يعرفون القراءة والكتابة بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وهذه لفتة مهمة لقيمة المتعلم والاستفادة منه.

 

وقع الغزوة على قريش:

أما في جانب قريش فقد كانت هناك مناحات، فلم يخلُ بيت من مصاب في قتيل أو أسير، ولما رأى أبو سفيان ما تضج به مكة من النواح والعويل أصدر أمره بمنعه؛ كيلا يبلغ ذلك محمدًا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا ترسلوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب – لا يغالي – عليكم محمد وأصحابه في الفداء، وأقسم ألا يمس طيبًا أو امرأة حتى يثأر من المسلمين، وكان الأسود بن المطلب، وهو أعمى، قد أصيب له من ولده ثلاثة، زمعة وعقيل والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، وبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له: انظر هل أحل النحيب؟ هل بكت قريش قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة – زمعة – فإن جوفي قد احترق، فاستطلع له الغلام الأمر ثم عاد ليخبره أن المرأة كانت تنوح على بعير أضلته، وكان هذا تمويه منها لكي تبكي قتلاها فلا تحاسب، فعرف منها هذا، وقال:

أتبكي أن يضِلَّ لها بعيرٌ
ويمنعها مِن النوم السهودُ
فلا تبكي على بكرٍ ولكن
على بدرٍ تقاصرتِ الجدودُ

 

وكان أول مَن قدم بالخبر إلى مكة الحيسمان بن عبدالله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قُتل عتبة وشيبة وأبو الحكم – أبو جهل – وأمية بن خلف وزمعة وأبو البختري، وجعل يعدد الكبار، فظنوه يَهذي، فقال صفوان بن أمية وكان جالسًا في الحِجر: اسألوه عني، فقالوا: وما فعل صفوان؟ قال: ها هو ذاك جالسًا في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قُتلا، ويروي أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنت غلامًا للعباس بن عبدالمطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمَتْ أم الفضل، وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاصي بن هشام، وكذلك كانوا يصنعون، لا يتخلَّف رجل إلا بعث مكانه رجلًا، فلما جاء الخبر عن مصاب قريش في بدر – وكنت في حجرة زمزم أنحت أقداحي وعندي أم الفضل جالسة وقد سرَّنا ما جاء من الخبر – أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة، فقال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث قد قدم، فقال له أبو لهب: هلم إليَّ؛ فعندك لعمري الخبر، فجلس والناس يستمعون، فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالًا بيضًا على خير بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق – تبقي – شيئًا، ولا يقوم لها شيء، فقال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فوثبت إليه، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك على صدري يضربني، قال: وكنت رجلًا ضعيفًا، فقامت أم الفضل إلى عمود فأخذته وضربت به رأس أبي لهب فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفتَه أن غاب سيده، فقام موليًا ذليلًا، فما عاش بعدها إلا سبع ليال؛ حيث ابتلي بداء العدسة، وهي قرحة كالطاعون، فقتلته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى