مقالات

هند بنت عتبة


هند بنت عتبة

 

أم الصحابي الجليل وأمير المؤمنين: معاوية بن أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

كانت من عقلاء النساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش وفصحائها، وكان له بيت ضيافة خارجًا عن البيوت تغشاه الناس من غير إذن، فحدث ذات يوم أن البيت خلا من الناس واضطجع فيه هو وهند، ثم نهض لحاجة فأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فدخله، فلما رأى هندًا رجع هاربًا، فلما نظره الفاكه دخل عليها فضربها برجله، وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدًا قَطُّ وما انتبهت حتى أنبهتني، قال: فارجعي إلى بيت أبيك وتكلَّم الناس فيها.

فقال أبوها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيكِ الكلام، فإن يكن الرجل صادقًا دسيت عليه من يقتله لينقطع كلام الناس، وإن يك كاذبًا حاكمته إلى بعض كُهَّان اليمن، فقالت له: لا والله ما هو عليَّ بصادق.

فقال له: يا فاكه، إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كُهَّان اليمن.

فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج أبوها في جماعة من بني عبد مناف ومعهم هند ونسوة.

فلما شارفوا البلاد قالوا: غدًا نَرِد على هذا الرجل، فتغيرت حالة هند، فقال لها أبوها: إني أرى حالك قد تغيَّر، وما هذا إلا لمكروه عندك.

فقالت: لا والله، ولكن أعرف أنكم تأتون بشرًا يُخطئ ويصيب، ولا آمنه أن يصفني بوصف يكون عليَّ سبَّة.

فقال لها: لا تخشي فسوف أختبره، فصفَّر لفرسه حتى أدلى، ثم أدخل حبَّةَ بُرٍّ في إحليله وربطه، فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم، ونحر لهم، فلما تغدوا قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبَّأنا لك خبيئة نختبرك بها.

قال: خبَّأتم لي ثمرة في كَمرة.

قال: إني أريد أبْيَن من هذا.

قال: حبَّة بُرٍّ في إحليل مُهْر.

قال: فانظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها ويقول لها: انهضي، فلما جاء دور هند قال: انهضي غير متهمة بشيء، وستلدين مَلِكًا اسمُه معاوية.

وعندما تبيَّنت براءتها نهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده وقالت: إليك عني، فو الله، إني لأحرص أن يكون ذلك من غيرك، فتزوَّجها أبو سفيان فولدت منه أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه.

قالت هند بنت عتبة بن ربيعة لأبيها: يا أبتِ، إني قد ملكت أمري -وذلك حين فارقها الفاكة بن المغيرة- فلا تزوِّجني رجلًا حتى تعرضه عليَّ، قال: ذلك لك؛ فقال لها ذات يوم: يا بنية، قد خطبك رجلان من قومك، ولست بمُسَمٍّ لك واحدًا منهما حتى أصِفَه لك.

أما الأول: ففي الشرف الصميم، والحسب الكريم، تخالين به هوجًا [متسرعًا] من غفلته، وذلك أسجاح [حسن العفو والسهولة] من شيمته، حسن الصحبة، سريع الإجابة، إن تابعتِهِ تابعك، وإن ملت به كان معك، تقضين عليه في ماله وتكتفين برأيك عن رأيه.

وأما الآخر: ففي الحسب والرأي الأريب بدر أرومته [أصله] وعِز عشيرته، يؤدب أهله ولا يؤدبونه [قوي الشخصية يضبط أهله ويفرض عليهم وجوده]، إن اتبعوه أسهل بهم [إن أطاعوه أكرمهم ونمى فيهم جوانب القوة والمجد]، وإن جابوه توعر بهم [إن عصوه قسا عليهم]، شديد الغيرة، سريع الطيرة، صعب حجاب [الحاجز والمانع والساتر] القبة [حريص على ستر نسائه]، إن جاع فغير منزور [جوعه ليس عن فقر، بل عن اقتصاد وربما شح]، وإن نُوزِع فغير مقهور، قد بينت لك أمرهما كليهما.

قالت له: أما الأول فسيد مضياع لكريمته، مؤاتٍ لها فيما عسى إن لم تُعتصم أن تلين بعد إبائها وتضيع تحت خبائها [الخيمة، والمقصود لا يثور لخطئها الذي يسيء سمعتها وسمعته]، وإن جاءت له بولد أحمقت، فإن أنجبت فعن خطاء ما أنجبت، اطْوِ ذكر هذا عني، فلا تُسمِّه لي.

وأما الآخر فبعل الحرة الكريمة، إني لأخلاق هذا لوامقة [محبة حبًّا شديدًا]، وإني له لموافقة، وإني لآخذ بأدب البعل مع لزومي لقبتي وقلة تلفتي، وإن السليل بيني وبينه [الولد الذي ننجبه] لحريٌّ أن يكون المدافع عن حريم عشيرته، الذائد عن كتيبتها [القطعة العظيمة من الجيش]، المحامي عن حفيظتها، الزائن لأرومتها، غير مواكل [عاجز، معتمد على غيره] ولا زميل [الضعيف الجبان] عند ضعضعة الحوادث [وقوع المصائب] فمن هو؟ قال: ذلك أبو سفيان بن حرب بن أمية.

قالت: زوِّجني منه، ولا تلقني إليه إلقاء المستسلس السلس، ولا تسمه بي سوم [المجاذبة بين البائع والمشتري على الثمن] المواطس الضرس، واستخر الله في السماء يخر لك بعلمه في القضاء.

ويبدو ذكاء هند الوقَّاد، وحصافة عقلها في حسن سَبْرها للرجال، وتقديرها لهم يوم خُيِّرت بين الرجلين.

فالمرأة العادية ترى في النوع الأول من الرجال مُنْيتها، فهو سمح لين جواد، حسن المعاملة لزوجته لدرجة الضعف والانقياد لها.

بينما تخشى المرأة العادية من النوع الثاني من الرجال، فهو قاسٍ في معاملته، لا تستطيع أن تصل إلى مآربها لقوة شخصيته التي تقف سدًّا منيعًا دون أهوائها وملذَّاتها، وتعاني من شدة غيرته وتطيره الأمرَّينِ في تأويل كل تصرف لها بسوء، وقمعها عن كل تحرُّك عادي يمكن أن يرى به خروجًا عن الجادة.

أما المرأة الحصيفة التي يحركها المجد، وتستهويها السيادة فترفض ذلك المطواع لها زوجها؛ لأن الناس سيتندرون به في مجالسهم، وهي تقبل بسوط ذلك الوعر القاسي الذي يشهد له قومه بعزته ومنعته، وتقبل مراقبته لها حتى لو وجدت في ذلك عنتًا ورهقًا، طمعًا في جانب آخر تعتز فيه، وهو أن يكون حاميًا لنسائه، يذود عنهن بالدم والروح.


وكانت هند من الطراز الثاني من النساء، اللاتي يرين في حسن السمعة والأحدوثة وشرف المجد، ما يُضحَّى بكل شيء في سبيلها.

إن عمق تفكيرها وبُعْد نظرها ليبدو يوم تتخيَّل الولد الذي ستنجبه، فعن أولاد النمط الأول تقول: إن جاءت له بولد أحمقت، فإن أنجبت فعن خطاء ما أنجبت.

بينما تراها تقول في أولاد النمط الثاني: وإن السليل بيني وبينه [الولد الذي ننجبه] لحريٌّ أن يكون المدافع عن حريم عشيرته، الذائد عن كتيبتها [القطعة العظيمة من الجيش]، المحامي عن حفيظتها، الزائن لأرومتها، غير مواكل [عاجز، معتمد على غيره] ولا زميل [الضعيف الجبان] عند ضعضعة الحوادث [وقوع المصائب].

ثم هي ترفض القبول السهل لأبي سفيان حتى لا يظن أنه نال فتاة عادية، من غير جهد، فلا يشعر بكرامتها على أبيها.

كما ترفض التعنُّت حتى لا ينصرف أبو سفيان عنها، وهي وامقة لخلاله، معجبة بخصاله، فقالت: ولا تلقني إليه إلقاء المستسلس السلس، ولا تسمه بي سوم [المجاذبة بين البائع والمشتري على الثمن] المواطس الضرس.

غير أن ختام حديثها يعطينا جانبًا جديدًا من جوانب شخصيتها فهي تقول: “واستخر الله في السماء يخر لك بعلمه في القضاء” ومعنى الاستخارة في المفهوم الجاهلي هو الاستسقام بالأزلام، وهذا يعني أننا أمام سيدة عريقة في جاهليتها، محافظة على تقاليد دينها، وهذه التقاليد متغلغلة في أعماقها، وهذا ما يضيء لنا معالم الطريق الوعر العنيف الذي سارت به هند وأبو سفيان ضد الدعوة المحمدية الجديدة.

إن هندًا لم تصل إلى هذا المستوى من النضج إلا بعد أن عركتها السنون، وحنكتها التجارب؛ إذ كانت زوجة للفاكه بن المغيرة وقد طعنها في أعز ما تملكه؛ في عرضها وشرفها، واحتكموا إلى كاهن باليمن، فبرَّأ ساحتها من هذا الاتهام الظالم، وأبت بعدها أن تعود لزوجها الفاكه، ومرت ثماني سنين بين زواجها من أبي سفيان وترْكها الفاكه بن المغيرة.

وحادثة كاهن اليمن الذي برَّأها زادت قناعات هند في دين قومها وتقاليدهم، فهي قد لمست في هذا الكاهن صدقًا لا يعتريه الشك يوم كشف الخبء الذي خبَّأه له أبوها عتبة، ويوم برَّأها نظيفة طاهرة من بين العديد من النسوة اللاتي كانت بينهن.

نحن إذن أمام امرأة متمسكة بدين قومها وتقاليدهم أشد التمسُّك، وعاشقة للشرف والشهرة أعظم العشق وأقواه، عكس أبي سفيان الذي يقل عنها تعصبًا، فهو قد أمضى حياته في التجارة والسفر، والتقى مع عصارات الحضارات العالمية.

وقال لها أحد المتفرسين من العرب يومًا: إنني أتوسَّم في ابنك أن يسود قومه، قالت هند: ثكلتُهُ إن لم يَسُدْ إلا قومَه؛ أي: فقدته إن لم يَسُدْ إلا قومه.

وكان لهند في جاهليتها موقف مع زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كانت بمكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع، وأرسل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من يأتيه بها إلى المدينة، وكان ذلك بعد غزوة بدر، ولم تجِفّ دماء قريش بعد، وكانت هند قد أصيبت بأبيها وأخيها وعمِّها، وكانت تطوف على مجالس قريش وأنديتها تُذكي نار الثأر، وتؤجج أوارَ الحرب.

وفي الطريق لقِيَتْ زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد تسرَّب خبر استعدادها للخروج لأبيها، فقالت هند: «أي بنت محمد: بلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك! أي ابنة عمي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يعينك في سفرك، أو بمالٍ تبلغين به إلى أبيك، فعندي حاجتك فلا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما يكون بين الرجال».

تروي زينب رضي الله عنها ذلك، وتقول: «ووالله ما أراها قالت إلا لتفعل».

ثم يوم خروج زينب تعرض لها رجال من قريش، يريدون إرجاعها، فتسقط من على ناقتها وكانت حاملًا، فتنزف، وتسمع هند، فتخرج مسرعةً، وتقول لقومها: «أين كانت شجاعتكم يوم بَدْر؟»، وتحُولُ بينهم وبين زينب وتضمها إليها وتمسح عنها ما بها، وتصلح شأنها، حتى استأنفت الخروج إلى أبيها في أمن وأمان.

أظهرت هند بنت عتبة مروءتها مع زينب رضي الله عنها برغم بغضها الشديد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وللمسلمين فلم تكن أسلمت بعد لكن لم يمنعها ذلك من إعانة الناس وقضاء حوائجهم.

وهذا يعطينا درسًا أن الفطرة السليمة تدعو إلى الخير والفضيلة التي تقود بدورها إلى معرفة الحق والإسلام كما تعلَّمنا مهما كانت درجة العداء بينك وبين الآخر فلا يمنع من مساعدة إن احتاج للمساعدة، فالمبادئ والأخلاق لا تتجزَّأ، وأن هناك أناسًا جُبِلوا على الأخلاق الحميدة، فعندما يسلمون يومًا ينطبق عليهم (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) وقد يهدي الله بك رجلًا من مجرد موقف لبَّيْتَ فيه نداءه وأجبت حاجته؛ فكان سببًا في حُبِّه للدين ودخوله الإسلام، فإذا كان أهل الجاهلية عرفوا المروءة فنحن أهل الإسلام أوْلَى بها.

لما التقى الناس في غزوة أُحُد ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويُحرِّضْنَ على القتال، فقالت هند فيما تقول:

 

وبعد انتهاء المعركة جعلت هند بنت عتبة والنساء معها يجدعن أنوف المسلمين، ويبقرن بطونهم، ويقطعن الآذان إلا حنظلة؛ فإن أباه كان من المشركين، وبقرت هند عن بطن حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها:

 

هند هي قاتلة حمزة رضي الله عنه قبل إسلامها، وكان في غزوة أُحُد بواسطة العبد حبشي، وقد قُتِل لها يوم بدر أبوها عتبة وعمُّها شيبة، قتلهما علي وحمزة، وقُتِل أخوها أيضًا.

ومن الرواة من يرى قصة أنها لاكَتْ كبد “حمزة” رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم تستسغه، فيها نظر، والأحاديث فيها ما بين مرسل وإسناده ضعيف ولم يصحَّ منها شيء.

قال معاوية بن أبي سفيان: لما كان عام الحديبية وصدت قريش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البيت، ودافعوه بالراح، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي فذكرت ذلك لأُمِّي هند بنت عتبة، فقالت: إياك أن تخالف أباك، وأن تقطع أمرًا دونه فيقطع عنك القوت، وكان أبي يومئذٍ غائبًا في سوق حباشة.

ويوم فتح مكة خرج أبو سفيان مسلمًا حتى إذا دخل مكة صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به؛ فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه وقالت: اقتلوا الحَمِيت [وعاء السمن] الدَّسِم الأَحْمَس [الكثير اللحم]، فقال أبو سفيان: لا يغرَنَّكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قبَّحَك الله! وما تغني دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرَّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.

وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدر دمها يوم الفتح، فجاءته مع بعض النسوة في الأبطح فأعلنت إسلامها، وكان بعد إسلام زوجها أبي سفيان رضي الله عنه، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بيعة الرِّجال، بايع النساء، وفيهنَّ هند بنت عتبة، وقد بايعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير مصافحة؛ فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يصافح النساء، ولا يمسُّ يد امرأة إلا امرأة أحلَّها الله له، أو ذات مَحْرَم منه.

فلما بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء، بايعهن “على ألَّا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا”، قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ يعني أن هذا بين لزومه، وقال في البيعة: “وَلا يَسْرِقْنَ”، قالت: والله، إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر هو لك حلال؛ فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفها، فقال لها: “وإنك لهند بنت عتبة؟” قالت: نعم، فاعْفُ عمَّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال: “وَلا يَزْنِينَ”، قالت هند: وهل تزني الحرة؟! فلما قال: “وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ”، قالت: ربيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قُتِل يومَ بَدْر، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى، وتبسَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: “وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ” [لا يلحقن بأزواجهن ولدًا من غيرهم] بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ”، فقالت: والله إنَّ البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: “وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ”، فقالت: والله، ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

وشكت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجها أبا سفيان أنه شحيح لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك).

وفي رواية أنها أسلمت في فتح مكة بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة واحدة إذ دخلت على زوجها فقالت له: إني أريد أن أبايع محمدًا، قال: لقد رأيتك تُكذبين هذا الحديث بالأمس، فقالت: والله ما رأيت الله عبد حق عبادة في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مُصلِّين، فذهبت إلى أخيها أبي حذيفة بن عتبة واستأذن لها أن تدخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالت: “الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه”، وأسلمت لله، وبايعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وفي البخاري عن عُرْوَة أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْد بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: “لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ”.

وفي رواية عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قالت: جاءت هندٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ، لا يعطيني ما يَكفيني وولَدي، إلَّا ما أخذتُ من مالِهِ، وَهوَ لا يعلَمُ، فقال: “خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ”؛ [أخرجه البخاري].

ولما أسلمت وبايعت عادت إلى بيتها فجعلت تكسر صنمًا كان عندها في بيتها بالقَدُوم حتى فلذته فلذة فلذة وهي تقول: كنتُ مِنْكَ في غرور.

ويقال: إنها يوم إسلامها أهدت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جديين، واعتذرت من قلة ولادة غنمها، فدعا لها بالبركة في غنمها فكثرت، فكانت تهب وتقول: هذا من بركة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام.

جاء عمر بن الخطاب إلى أبي سفيان، فإذا هند بنت عتبة رضي الله عنها امرأته تهيئ أُهُبه لها في المدينة، فقال: أين أبو سفيان؟ فقالت هند: ها هو ذا، وكان في ناحية من البيت، فقال: احتسبا واصبرا، فقالا: مَن يا أمير المؤمنين؟ قال: يزيد بن أبي سفيان، فقالا: من استعملت على عمله؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، قالا: وصلتك رحم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

شهدت هند رَضِيَ اللَّهُ عَنْها اليرموك مع زوجها، فلم تترك هند ساحة الجهاد ولكن هذه المرة في سبيل الله، فقد شهدت معركة اليرموك وحرَّضت على قتال الروم، وجعلت تقول “عضدوا الغلفان بسيوفكم معشر المسلمين.

توفيت في ولاية عمر بن الخطاب في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة سنة أربع عشرة من الهجرة.




اكتشاف المزيد من اقلام عربية-رأي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اقلام عربية-رأي

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading