مقالات

خواطر: علمتني الكتب


خواطر: علمتني الكتب

 

الحمد لله، الذي علَّم وقوَّم، وبيَّن وفهَّم، وأرشد وألهم، والصلاة والسلام على نبيه الْمُلْهِم الْمُلْهَم، وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد:

فعلمتني الكتب: أنها خير جليس، ونعم الأنيس، وأنها العِلْقُ النفيس، والملاذ إذا حَمِيَ الوطيس؛ ولقد أحسن من قال:

أعز مكان في الدُّنا سَرجٌ سابح
وخيرُ جليس في الزمان كتابُ

وكذا من قال:

أنِستُ إلى التفرد طول عمري
فما لي في البرية من أنيسِ
جعلت محادثي ونديمَ نفسي
وأُنسي دفتري بدل الجليسِ

 

علمتني الكتب: أن لها لسانًا وشفتين، وكلما كنت لها ملازمًا وبها لصيقًا، وإليها مقبلًا، وعليها منكبًّا، كنتَ أعلم بحركة شفتيها ومنطوق لسانها.

علمتني الكتب: أنه لا يخلو كتاب من فائدة.

علمتني الكتب: أن لها لذةً تُلهِب أريحية القارئ، وتُحرِّك وِجدان الناظر، وتهتز لها القلوب، وتلتذ لها الأسماع وتطرَب، وتهَشُّ لها النفوس وترتاح، وتُذهِب العُبُوس والعُسر، وتجلب البشاشة والبِشر.

علمتني الكتب: أن ما يُسمع غير ما يُقرأ، وأن ما يُنقَل عنها قد يكون مغايرًا لِما فيها، فلا يغني عنك هذا أو ذاك، فلا بد من الرجوع إليها والأخذ منها، والإقبال بكليتك عليها، ومن اكتوى بمثل هذا، يعرِف ما قلت ويدرِه.

علمتني الكتب: أنها تشحَذُ الفكرة، وتروِّض الموهبة، وتصقُل الألباب، وتنمِّي الآداب.

علمتني الكتب: أنها أعظم زاجر وواعظٍ بك يصيح، ومخادِن لك نصيح.

علمتني الكتب: أنها تُبدِّد الوَحدة، وتُؤنِس الوَحشة، وهي نور في الغَبَشة، وضياء في الظلمة، ونديم في الخَلوة.

علمتني الكتب: أنها تُذهِب رانَ القلوب، وتغسل دَرَنَ النفوس، وتَنفي الخَبَثَ، وتُنهِي العَبَث، وتُذهِب وَحَرَ الصدور، وتجلو ما بالعيون من الغَشْي.

علمتني الكتب: أن فيها غُنيَة لمن عجز عن الأسفار، وركوب السفن التي تمخُر عُباب البحار.

علمتني الكتب: أن منها ما هو جند من جنود الله عز وجل، يهدي الله عز وجل بها من يشاء، ويثبِّت الله عز وجل بها من يشاء من عباده.

علمتني الكتب: أن القناعة فيها زهد، والزهد فيها ترك، والترك لها جهل.

علمتني الكتب: أن لها نشوة زكية، ومعها نشوة طيبة، وبها نشوة مُسْتَمْلَحة.

علمتني الكتب: أن ما لا تحتاجه اليوم منها، حتمًا ستحتاجه غدًا، وأن ما ليس منها علمٌ لك اليوم، سيصير من علمك غدًا، فتريَّث ولا تتعجل.

علمتني الكتب: أن لكل مطالعة شِرَّة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى شيء منها، فقد أحسن.

علمتني الكتب: أنها آلة التحصيل، والعاقل لا يجعل تحصيلها وكثرتها حظَّه من العلم، وجمعَها نصيبَه من الفهم؛ وقد أحسن القائل:

فجمعُك للكتب لا ينفع
إذا لم تكن حافظًا واعيا

علمتني الكتب: أنه ينبغي ألَّا يحقِرَ أحدنا منها شيئًا، وإن عَزَفْتَ عنها، ولم تحتَجْ إليها، فلا أقل من أن تلقاها بوجه طلقٍ.

علمتني الكتب: أنه مهما كانت نية الْمُقْبِل عليها، فلن يَعدَم من كتاب خيرًا.

علمتني الكتب: أن بينها وبين مُقْتنيها والناظر فيها قصصًا وهُيامًا، وشغفًا وحبًّا، وعشقًا وغرامًا، لا يمكن لأحدهما معها أن يلتفت عنها يمنة أو يسرة، فضلًا عن أن يتشاغل – ولا أقول ينصرف – أحدهما عن الآخر؛ لأنهما يعلمان علمًا يقينًا لا يخالطه شك، ولا يعتريه ظنُّأن ذلك من الأمور الْمُبْطلة لتلك الخَلَّة، وهي – والله وبالله وتالله – من أجَلِّ ما أنت سامع من قصص العشق والهيام، تضمحلُّ عندها وتنقطع، وتتقشع وتذهب كل تلك الأُقصوصات الخرقاء التي لا تعدم علة، والأساطير الجوفاء التي لا قلبَ لها، والأباطيل المستشْنَعة المزوَّقة التي لا أصل لها، والتي ملأت منذ صِبانا صماخَ آذاننا نتنًا، وأجوافنا قَيحًا.

علمتني الكتب: أنه على قدر الصناعة تكون الآلة.

علمتني الكتب: أنها أعز عليَّ من بُؤْبؤ عيني، وأرحم بنفسي مني بها، وأشفق عليَّ مني لها.

علمتني الكتب: أن من أحسن إليها أحسنت ولا بد إليه، وقديمًا قيل: “ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”.

علمتني الكتب: أنه على قدر الهمة تكون البُلغة، وعلى قدر الْمُؤنة تكون المعونة، وعلى قدر النية يكون الجزاء، وعلى قدر البذل يكون العطاء، وعلى قدر الزرع يكون الحصاد، وعلى قدر الاحتساب يكون الاكتساب، وعلى قدر حثِّ الخطى يكون البلوغ والرضا، وعلى قدر المسارعة يكون الاستحقاق، وعلى قدر النَّصب والصبر يكون الثواب والأجر، والجزاء – كما قيل – من جنس العمل.

علمتني الكتب: أنه كم ترك الأول للآخر، والسابق للاحق، والمتقدم للمتأخر! وأنه قد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل، فالحرصَ الحرصَ على الجِدِّ والمثابرة، والإلْظَاظ والمواظبة، والاستكثار من المطالعة، والازدياد من القراءة، والتوسع والتوغل فيها بالمعروف، وأن من استكثر من شيء نُسب إليه، وأن عمارتها – إن صح التعبير – تكون نظرًا وفهمًا، وبذلًا وعطاء، ودلالة وإرشادًا، وتصحيحًا وتنقيحًا، وتحقيقًا وتأليفًا؛ فإن ذلك كله من عمارتها، وبذل الوسع والانهماك في طلبها وتحصيل ما فيها، والمبالغة في التدقيق، والتأنق في التحقيق، والتحري عند التوثيق، ولا سيما مع القدرة، والحذرَ الحذرَ أن نكون ممن يقتات السَّوف ويعيش بالأمانيِّ، والتحرُّز التحرز أن نقول ها هنا: نَظِرةٌ إلى ميسرة، فهو غير مقبول هنا وإن كان في غيره مقبولًا، فتذكر دومًا: كم ترك الأول للآخر! وقد نسبها ابن سيد الناس – كما في الدرر لابن حجر – لأبي الحجاج جمال الدين الحافظ يوسف بن الزكي المزي رحم الله الجميع؛ وقد قيل:

لا زلت من شكري في حُلَّة
لابسها ذو سلبٍ فاخرِ
يقول من تقرع أسماعه
كم ترك الأول للآخرِ

 

هذا كله مع اعترافنا وتسليمنا إلى من تقدَّمَنا بالفضل في زمانهم؛ لمحاسن فِعالهم وأقوالهم، وفقههم وعلومهم المشهورة المسطورة، فالفضل للمتقدم، وليس الغنيُّ كالمعدم، وفوق كل ذي علم عليم، ومدِّعي الكمال من البشر مُليم.

ولو قبل مَبكاها بكيتُ صبابةً
إذًا لشفيت النفس قبل التندُّمِ
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا
بكاها فقلت: الفضل للمتقدمِ

 

علمتني الكتب: أن لكل مجتهد نصيبًا، وله من حسن الذكر نصيبًا، ولا أقول: كل مجتهد مُصيب، فإن الأولى سليمة مقدمتها، صحيحة نتيجتها، أما الثانية المنسوبة إلى عبيدالله بن الحسن، فأولها سفسطة، وآخرها زندقة؛ كما كان يقول أبو إسحاق الإسفراييني، وهي كذلك تهدم الشريعة، وتعكس الحقيقة، فقولهم هذا خطأ ظاهر، تردُّه النصوص ردًّا بيِّنًا، وتدفعه دفعًا ظاهرًا، فلا يصح شرعًا، وهو ممتنع عقلًا؛ فالمصيب عند التحقيق له أجران، والمخطئ له أجر، وتذكَّر أن المرء غير معصوم، والنسيان في الإنسان غير معدوم.

علمتني الكتب: أن قيمة كل امرئ ما يُحسن، فرضِيَ الله عن قائلها، وليس كلمة أحضَّ على طلب العلم منها كما قيل، وقد أحسن الخليل بن أحمد الفراهيدي حين قال في قصيدة له:

لا يكون السَّرِيُّ مثل الدَّنِيِّ
لا ولا ذو الذكاء مثل الغبيِّ
قيمة المرء كلُّ ما أحسن المر
ء قضاء من الإمام عليِّ

 

علمتني الكتب: وجوب الحرص على معرفة الحق والتعلق به، وبذل الجهد للإنصاف ولزومه، ومفارقة العوائد وطلب الأوابد؛ فإن الحق في مثل هذا الزمان مأخوذ بيد الإهمال، وعدم الاحتفال، ولا يكاد يعرفه إلا واحد بعد واحد، ومتى عظُم المطلوب قلَّ المساعد، على أن الحق – والحمد لله – كان وما زال وسيظل مصونًا عزيزًا، نفيسًا كريمًا، وهو لا يُنال قط مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوُّف والتشوق إلى سببه، ولو كان ذلك كذلك، ما كان على وجه الأرض مُبْطِلٌ ولا جاهل، ولا بطَّال ولا غافل.

علمتني الكتب: أنه متى ما ظفرت بأحد يشجعك على جمعها وتحصيلها، والعكوف عليها ومطالعتها، والإقبال عليها وقراءتها، فشُدَّ عليه بكلتا يديك، وعَضَّ على صحبته بناجذَيك؛ فقلَّما تجد له نظيرًا أو مثيلًا؛ لأنك لن ترى – يا محب الكتب والمطالع فيها – حولك إلا مرغِّبًا عنها، ومزهِّدًا فيها، ذكرانًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، شبابًا وشيبة، والله المستعان.

علمتني الكتب: أن الفائدة الْمُقْتَنَصَة منها تختلف باختلاف الناس، وأهم ما فيها الْمُجْمَع عليه أو ما يقاربه، فاحرص عليه وابدأ به، فإن فيه خيرًا كثيرًا، وفضلًا وفيرًا.

علمتني الكتب: أن فيها ما لا يوجد إلا فيها، والموفَّق من أقبل عليها قصدًا، وجعل له منها ذُخرًا، وولج فيها وخرج منها محمودًا.

علمتني الكتب: أن منها رياضًا فَيْحَاءَ، وأخرى غنَّاء، وأرضًا مزهرة، وبساتينَ مثمرة، وبقاعًا فِساحًا، ودوحة رداحًا، وفَلاة جدباء، وصحارى قاحلة، والراعي الحذِق الفطِن يرعى بما يحسن، فيما يحسن، ويُسِيم ماشيته في المرعى الحسن؛ فإن للراعي على ماشيته إصبع.

علمتني الكتب: أنها أنْفَسُ من كل نفيس، ولا يجهل قدرها إلا خسيس، ولا يزهد فيها ويرغب عنها إلا جاهل، أو من تلبَّس به إبليس.

علمتني الكتب: أن لها نَهْمَةً من أدمنها قط لا يُشفَ منها، وحقًّا أقول: منهومان لا يشبعان: الأول: منهوم كُتُب، والثاني: منهوم كتب أيضًا، وتأمل تراجِم أهل العلم تجد عجبًا، وترى قصائص وأقاصيص وقصصًا، ولا ينبئك مثل خبير.

علمتني الكتب: أنها كالوَجَبات، فمنها ما لا يمكن لك أن تستغنيَ عنه بحال، ومنها ما هو كالحلوى، وبين هذا وذاك صنوف طيبة وأصناف حسنة، كما أن فيها أيضًا الأزْبَر المؤذي، والوباء والسُّم الزُّعاف، وكلٌّ أدرى بما يُقيم صلبه، ويُقوِّي عوده، وينفعه في دينه ودنياه وآخرته، كما يعلم ما يضره ولا ينفعه، ومن جهل أو شكَّ أو تحيَّر؛ فعليه بقول المولى جل وعلا: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].

علمتني الكتب: أن العمر قصير، والوقت يسير، وإن لم تكن لبيبًا حريصًا، فاتك منها الكثير والكثير؛ فاحرص على ما ينفعك منها في العاجل والآجل، والحال والمآل، والحَلِّ والترحال.

علمتني الكتب: أنها سلعة – عند الكثيرين وللأسف الشديد – كاسدة غير نافقة، وسوق بائرة غير تاجرة، العيون إليها فاترة، والهِمَم عنها راغبة، والتَّثْبِيط عنها كثير، والتعويق بينك وبينها كبير، والمرغِّبون فيها قليل، والمزهِّدون عنها كُثُر، من القرابة ومن دونهم، وما لم تكن صاحبَ إرادة وهمَّة، وعزيمة ونَهْمة، فتوشك أن تقع صيدًا لمخالبهم، وضحية لبراثنهم، وأسيرًا لفخاخهم؛ فتنبَّه.

علمتني الكتب: أن من رُزِق لذة المطالعة فيها، ونهمة الإقبال عليها، فقد رُزِق خيرًا كثيرًا، علِمه من علمه، وجهِله من جهله.

علمتني الكتب: أنه كما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، فكذلك لا يستوي أهل القراءة والعلم مع غيرهم.

علمتني الكتب: أن في طياتها كنوزًا يعجز العاقل عن تصورها، والشاعر عن نظمها، والأديب عن نثرها، والحاسب عن عدِّها، والقانص عن صيدها؛ لكن الأمر كما قيل: ((سددوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا))، و((القصدَ القصد تبلغوا))، و((أحب الأعمال أدومها وإن قلَّ))، و”ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُلُّه”، وتذكر: ولن يشادَّ أحدٌ الكتب إلا غلبته.

علمتني الكتب: أنها خزائنُ حَوَتْ من الكنوز غُرَرًا، وجمعت من النفائس دُرَرًا، أبوابها مغلقة، والطرق إليها مُوصَدة، وعليها أقفال، فالبلوغ إليها متعذَّر، والتنقيب عنها متعسر، ومفاتحها متباينة متعددة، تنوء به العُصبة، ولا تتأتى لأي أحد، فمن كان – مع هذا كله – لها راغبًا، ومن وعورة الطريق راهبًا، فليتزوَّد بعشر متلازمات متماسكات، مطَّردات ثابتات، نافعات – ولا بد – بإذن رب الأرض والسماوات، أُنْبِيك عنها ببيان، من غير حُكْلَة ولا عُجمة، ولا تَمْتَمَةٍ ولا فأفأة؛ لتكون لك كزادٍ في مسيرك للبلوغ إليها، وعدة ومفتاحًا في قدومك للولوج عليها، فدونكها أخي القارئ؛ فإنها – بإذن الله – جامعة نافعة، سهلة مواتية، رافعة غير خافضة:

أولاها: التقوى والإخلاص.

وثانيها: الاستعانة والاستشارة.

وثالثها: الضراعة والدعاء.

ورابعها: الشكر والحمد.

وخامسها: التأني والصبر.

وسادسها: الهمة والنَّهمة، والإرادة والمداومة.

وسابعها: الفَهم والإنصاف، وترك التعسف والإسفاف.

وثامنها: حسن التنقل، والحرص على ما يسُدُّ الخَلَّة، ويرفع الحاجة.

وتاسعها: العزوف عن الكِبْر والبَطَر، وملازمة التواضع والانكسار.

 

وعاشرها: التخطيط والتوثيق، والبداءة بالأنفع ثم النافع، وبالأهم فالمهم، ثم ما يرفع الملالة ويدفع السآمة، وهكذا دواليك دواليك، وهَذَاذَيك هذاذيك، وحَنَانَيك حنانيك، مرةً بعد مرة، وكَرة بعد كرة، وعندها بعون من الله عز وجل وتوفيقه يَبين الصبح لذي عينين، وكما قيل: وغِبُّ – غب الأمر مغبته وعاقبته – الصباح يحمَد القومُ السُّرى.

 

علمتني الكتب: أن روَّادها يتفاوتون بتفاوت الأخذ منها، ومن أراد أن يستمر ونفسه تنازعه وهو يخشى أن يحقِرَ ما أخذ منها، فلينظر من هو دونه، ولْيحمَدِ الله عز وجل، وليمضِ قُدُمًا.

علمتني الكتب: أنه لا يمكن أن يُجعَلَ من له سهم فيها، كمن لا سهم له.

علمتني الكتب: أنه قطُّ لا يخيب من أخذ منها بنصيب.

علمتني الكتب: أن البدع عمَّت وطمَّت، وانتشرت وتفشَّت، وكثرت الدعاة إليها والتعويل عليها، فيا من سلمك الله منها، احفظ، وافهم، وكن من الشاكرين.

علمتني الكتب: أن لكل زمان طلابًا للحق باحثين عنه، فبالأمس – أيام الفترة – ترى سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل، قدوة الطالبين للحق، وأُسوة الباحثين عنه، بذلوا فوُفِّقوا، وحرَصوا ففازوا، ويا سبحان الله! كم أدرك الحق طلابه في تلك الفترة! وكم عمِيَ على الكثير اليوم بعد زمن النبوة!

علمتني الكتب: أن طلاب الحق حاضرون في كل زمان ومكان – والحمد لله – آخذين له بقوة، ظاهرين به بعزَّة، يقِلُّون ويكْثُرون، يزيدون وينقصون، لكن لا تخلو الأرض من قائم لله عز وجل بحُجة قوية، يدعو الناس إلى الْمَحَجَّة السَّوِية.

علمتني الكتب: أن منها – والله الذي لا إله إلا هو – ما يُستغنى به عن كثير من ملذات الحياة ومتاعها، فضلًا عن ترفها وبذخها.

ولقد أحسن العلامة المقريزي أيما إحسان؛ حين قال في درر العقود الفريدة:

 

علمتني الكتب: أنها كالأسانيد علوًّا ونزولًا، فلا تكتفِ بما حُدِّثت عما فيها أو ما في بعضها، ولا ترضَ بذلك، وكن صاحبَ همة تعلو بها مع الكتاب خيرٌ لك من النزول مع السماع، ولا سيما أن فيه ما فيه.

علمتني الكتب: أن ما فيها صيدًا ثمينًا، لا بد من تقييده، ولو لم تدعُ إليه الحاجة في وقته، فكم والله أغفلنا التقييد مرات وكرات، اعتمادًا على الذاكرة أحيانًا وعلى الكتب أخرى، وفقدنا بذلك الكثير من الخير الوفير، وكم سيكلفك ذلك وقتًا وجهدًا كبيرين كثيرين للبحث عنها مرة أخرى! فأنت بتقييدك لها تنجو من ذلك كله، بل منها – وهذا من عجيب ما وقع لي – ما بقِيَ كالخيال في ذاكرتي أدرك وَسْمَه، ولا أعلم رسمه على الحقيقة، ولم أهتدِ إليه مرة أخرى إلى الساعة هذه، فسبحان الله! وقد قيل:

العلم صيد والكتابة قَيدُه
قيِّد صيودك بالحبال الواثقةْ
فمن الحماقة أن تصيد غزالة
وتتركها بين الخلائق طالقةْ

 

علمتني الكتب: أنه إياك ثم إياك أن تركَنَ إلى حفظك أو تغترَّ به، ومن عجيب ما قرأت – حتى لا نغتر بحفظنا ونركن إليه – ما كنت قرأته قديمًا في تهذيب التهذيب في ترجمة عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله قوله: “ما كتبت سوداءَ في بيضاءَ، ولا حدثني رجل بحديث إلا حفِظته، ولا حدثني رجل بحديث فأحببت أن يعيده عليَّ”، أقول: فتأمل سبحان الله! مع قوة هذا الحفظ الذي لم يتأتَّ للكثير من معاصريه ومن قبله ومن بعده في تلك الحقبة، فكيف بزماننا الذي لو اجتمع الحَفَظَةُ قاطبة ما بلغوا مُدَّه ولا نَصيفه – أقول: مع هذه القوة، إلا أنه قد فاته خير كثير في تركه للتقييد، ويكفي شهادته هو على نفسه بيانًا لذلك؛ حين قال: “ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل، لكان به عالمًا”.

علمتني الكتب: أن في الأنس معها والتعلق بها غُنية عن كل أحد، وليس في شيء قط من أمور الدنيا أيًّا كان غنية عنها؛ ولقد أحسن من قال:

 

علمتني الكتب: أن لزومها وصحبتها تغني – والله الذي لا إله إلا هو – عن صحبة الكثير من الرجال، فكيف بالأنذال؟!

 

والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى