مقالات

يوسف الصديق عليه السلام (1)


يوسف الصديق عليه السلام (1)

 

نتحدَّث في هذا الفصل عن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف الصديق نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في الحديث عن آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام بعض الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وعامة النسَّابين على أنه وُلد ليعقوب من زوجته راحيل، وأكثر أهل العلم على أنها ماتت وهو صغير بعد أن تركت له شقيقًا أصغر منه هو بنيامين.

 

وكان يعقوبُ عليه السلام قد أنجب من غير راحيل عشرة أولاد آخرين، وكانت زوجته الأخرى هي أخت راحيل الكبرى، وقد أعطى الله عز وجل يوسفَ عليه السلام من الحُسن والجمال ما جُعل مضربَ المثل في ذلك حتى وصفه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنه أُعطي شطرَ الحُسن؛ فقد روى مسلم في صحيحه في قصة الإسراء والمعراج من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديثه عن عروجه إلى السماوات العُلا: ((ثم عُرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: مَن أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف، فإذا هو قد أُعطي شطر الحُسن…))؛ إلخ الحديث.

 

وقد ذكر الله تبارك وتعالى عن النسوة اللاتي لُمْنَ امرأةَ العزيز أنها لمَّا اختبرتهم فوضعت ﴿ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31].

 

وقد أحبَّه أبوه يعقوب عليه السلام، لما منَّ الله عليه به من جمال الظاهر والباطن، ورأى إخوتُه أنَّ أباهم يحب يوسف وبنيامين أكثر منهم، وأبوهم أعرف بحالهم وحاله وسلوكهم وسلوكه.

 

فحقدوا على يوسف عليه السلام، وإخوة يوسف ليسوا بمعصومين من المعاصي والسيئات؛ فهم ليسوا بأنبياء، وهم وإن كانوا من الأسباط لكنهم غير الأسباط الذين ذَكَر الله عز وجل أنه أَوحى إليهم في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾ [النساء: 163]؛ إذ السبط يطلق على ولد الولد مهما نزل، كما يُطلق على ولد البنت كذلك.

 

وقد خصَّ الله تبارك وتعالى يوسف بسورة كاملة من القرآن قصَّ فيها قصته، وقد ختم سورة هود بقوله تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120]، وقد ذكر في أنباء الرُّسل المذكورين في سورة هود ما لقي الأنبياء مِن قومهم من الأقارب والأباعد من الأذى، ذكر في سورة يوسف وهو أحد الرسل العظام ما لَقِي من أذى إخوته له؛ ليعلم ما لقيه الأنبياء من أذى الأقارب والأجانب؛ لما في ذلك من تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلوب المؤمنين.

 

وقد اشتملت قصَّةُ يوسف عليه السلام على الجليل من الأحكام والحكم والآداب وقواعد السلوك وسير الملوك، وتفكير العلماء، وتدبير الخطط؛ للوصول إلى المقاصد الصالحة، ورسمِ الوسائل الجميلة لنيل الأهداف السامية، ومكر النساء، وعدم صبرهنَّ على ما قد يعرض لهن مِن الفتن، وبيان حُسن عاقبة المتقين الصابرين، وأن الأنبياء لا يعلمون الغيبَ إلا ما يطلعهم الله عليه منه.

 

وقد بدأ الله تبارك وتعالى قصةَ يوسف برؤياه التي رأى عليه السلام وهو صغير السن، وختم قصته بأن ما آلَ إليه من العزَّةِ والكرامةِ كان تأويل رؤياه وتحقيقها، وفي رؤيا يوسف يقول الله عز وجل: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، وقد فهم يعقوب عليه السلام أن رؤيا يوسف هذه تدل على أنه أُعدَّ لأمرٍ عظيم من تشريف الله له، وإعزاز جنابه، واصطفاء الله له، وأنه يتم نعمته عليه وعلى أبيه يعقوب كما أتمَّها على أبويه إبراهيم وإسحاق، وطلب مِن يوسف أن يكتمَ هذه الرؤيا عن إخوته لما يستشعره يعقوب مِن حقدهم عليه وبُغضهم له، وأنه لو أخبرهم بقصة هذه الرؤيا لازدادوا حِقدًا وكادوا له كيدًا.

 

وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 5، 6]، وقد فهم يعقوبُ من هذه الرؤيا كذلك أن ابنَه يوسفَ سيكون طويلَ الباع في تعبير الرؤيا والأحلام، مما ينبني على ذلك من رفعة شأنه وعلوِّ منزلته، وتمكينه في الأرض، وعامَّة المفسرين على أن الأحد عشر كوكبًا هم إخوة يوسف، وأن الشمس والقمر هما أبوه وخالته أو أبوه وأمه.

 

وقد وصف الله عز وجل ما كان من شأن يوسف وإخوته بأنه آياتٌ للسائلين؛ حيث يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾ [يوسف: 7]، أي: عِبرٌ وعِظات، وعجائب وحِكم للمستخبرين المستشرفين المعتبرين المتشوفين، وماذا يفعل الحسد بصاحبه، ونهاية حال الحاسدين، وآثار الصبر والعاقبة الحميدة للصابرين، وحنان الأب، وأنه مهما حرص الإنسان على حفظ ولده من السوء، فإنه لا يخلصه مِن قضاء الله، وأنَّ الأبَ الصالح قد يلدُ الابنَ غير البار، وأنَّ العفو عند المقدرة من شيم الكرام، وإثبات النبوَّة والرسالة لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الدلالات والعِبر مما لا يحيط به إلا الله عز وجل.

 

وكانت أول بادرة سوء مِن إخوة يوسف أن قالوا: ﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ ﴾ [يوسف: 8] بنيامين ﴿ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا ﴾ [يوسف: 8]، فميله إليهما أكثر، وحنانه عليهما أعظم، وعطفه عليهما أشد مع أننا لقوَّتنا أعظم نفعًا لأبينا، ونحن مع كثرتنا يد واحدة، إنَّ أبانا لَمخطئ في هذا الحبِّ، بعيدٌ عن الرشد والصواب، قال بعضهم لبعض: لا بدَّ من صرفِ يوسف عن وجه أبيه، فاقترح بعضهم قتلَه، واقترح بعضهم رميَه في أرض بعيدة تفترسُه الوحوش أو يموت في تلك الأرض، ونكون صالحين بعد ذلك، واقترح بعضُهم إبعادَه عن أبيه مع محاولة المحافظة عليه من أسباب الهلاك بإلقائه في ﴿ غَيَابَتِ الْجُبِّ ﴾ [يوسف: 10]؛ وهي إحدى جوانب البئر المظلمة ليُلتقط، واستقرَّ رأيهم على أن يجعلوه في مكان مظلمٍ من بئر يَرِدُها المسافرون إلى مصر من فلسطين، ولما بدؤوا في تنفيذ هذه الخطة قالوا لأبيهم: يا أبانا ما لك لا تسمح لنا باستصحاب يوسف معنا إلى ملاعبنا ومراعينا مع أننا نحبه وننصح له ونخلص مودته؟! ابعثه معنا غدًا إلى الَّصحراء نتنعَّم ونأكل، ونلهو وننشط، ونتسابق ويتدرب على رعي الماشية، ونؤكد لك أننا سنحافظ عليه من كلِّ ما يسوء.

 

فأجابهم يعقوب عليه السلام بأنه لا يطيق فراقَه، وأنه يحزنه بُعده عنه، ويخشى عليه من الذئب في حالة لهوهم وغفلتهم عنه، فاستبعدوا أن يأكله الذئب؛ لأنهم عُصبة، أي: جماعة أقوياء يشد بعضهم أزر بعض، فلن يصل إليه الذئبُ بحال؛ لأنه لو وصل إليه الذئب مع قوتنا وكثرتنا فإنه لا خيرَ فينا حينئذ، ونكون هالكين عاجزين ضعفاء، فأخذوه من أبيه مع حذر أبيهم؛ لأن الحذر لا ينجي مِن القدر وتركوا بنيامين، وذهبوا به إلى الجُبِّ، فلما ألقوه في غيابات الجُب – غيابة الجب شبيهة بـ “بيت الماكينة” في عصرنا الحاضر، يُجذَبُ بها الماء من البئر، ولو ألقوه في وسط البئر لمات – ألقى الله عز وجل في قلبه الطمأنينةَ، وأنه لن يهلك في هذه البئر، وأنه سيرى إخوانَه الحسدة هؤلاء مرَّةً أخرى، وأنه سيخبرُهم بهذا الذي فعلوه معه في وقت يكون فيه عزيزًا وهم أذلَّاء، وكانوا قد جرَّدوه مِن قميصه قبلَ إلقائه في الجُب، فوضعوا على قميصه دمًا كذبًا، أي: دمًا مكذوبًا مفتعلًا ليس بدم يوسف، ﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ﴾ [يوسف: 16]، وقالوا لأبيهم: ﴿ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾ وما أنت بمصدق ما نقول، ﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، ولم يصدقهم يعقوب عليه السلام في أكل الذئب له ولا أنه قتل؛ ليقينه أنه سيكون ليوسف شأنٌ؛ ولذلك قال لهم: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].

 

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى