مقالات ثقافية

آفة الحسد في الأرياف


آفة الحسد في الأرياف

 

وأنا جالس كعادتي أرتاح من العمل ومشاغل الحياة ومتاعبها، وأحاول إعادة ترتيب أفكاري؛ ومِن ثمَّ بدأتُ أتصفَّح مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت وسيلةً للترويج والاطِّلاع على أخبار العالم، استوقفتني تدوينة على إحدى الصفحات، وهي مقولة منسوبة إلى الإمام مالك، مفادُها أنَّ الإمام مالك كان قد أوصى الإمام الشافعي بوصيَّة يقول فيها: “لا تسكن الريف فيضيع عِلْمُك، من أراد العُلا هجر القُرى؛ فإن الحسد في الأرياف ميراث”.

 

وللتأكُّد من صحَّة هذه المقولة أو خطئها بحثتُ في الإنترنت الذي سهَّلَ ويسَّر علينا الوصول إلى المعلومة بسرعة، كما بحثتُ أيضًا في بعض الكتب، فتأكَّد لدي الأمر، ووجدتُ أنَّ أغلب الأئمَّة وأهل الاختصاص أدْلَوا برأيهم في مدى صحة هذه المقولة، وهل هي فعلًا من أقوال الإمام مالك أم لا؟

 

ومن ثمَّ كان لا بُدَّ لي من التدخُّل وأبديتُ رأيي أنا كذلك، وفي مدى صحة هذا الوصية أو هذه العبارة يمكن القول: إنَّ الأمر نسبي إلى حدٍّ ما، وفي هذا الصدد سأقصُّ لكم تجربتي؛ لأنَّني من مواليد قرية صغيرة بالعالم القَروي وقد ترعرعت ونشأت فيها، وحسب تجربتي المتواضعة في حياتي الشخصية هناك، كنت قد درست المرحلة الابتدائية فيها، ولا زلت إلى اليوم أذهب إلى هناك؛ لأنها مقرُّ سكن أجدادي ووالدَيَّ؛ مِمَّا يعني أنَّني عايشتهم وتعاملت معهم كثيرًا، فعلًا في القرى والبوادي تجد أنَّ أغلب الناس تحشر أنفَها في أعراض أبناء الجيران، وتُبالغ في التركيز على إنجازاتك وعِلْمك، وتَتبُّع أخباركَ وتطويرك لذاتك، والخطير في الأمر أنهم يحبطون كُلَّ مَنْ يتمنَّى أن يُحقِّق حُلمًا يراوده منذ صغره، فعلى سبيل المثال عندما كنت صغيرًا أدرس في الصف الابتدائي ما زلتُ أتذكَّر إحدى الأمهات وكذا الآباء، عندما يسألون أحد الأطفال الصغار عن حلمهم عندما يكبرون، فهناك من يقول: أريد أنْ أصبح طبيبًا أو طيارًا، أو أنْ أكون مهندسًا، فتجدهم يسخرون ويضحكون على قائلها، فأغلبهم يحبطون ويثبِّطون عزيمة كُلِّ مَن يتقدَّم ولو بخطوة صغيرة، وإن كان هذا يدل على شيء، فإنَّما يدلُّ على حجم الحقد والحسد الذي يُكنُّونهُ لهؤلاء الأطفال الأبرياء، رغم أنهم لا يختلفون عن أبنائهم في شيء.

 

إنَّ هذه المقولة ترتبط بالحسد والحقد الذي يقع على طلبة العلم، فيقوم بعض الناس بتفسير ذلك على أنه ينبغي على دارسي العلم (تلاميذ وطلبة) أن يهجروا الأرياف والقرى حتى لا يفقدوا علمهم بسبب آفة الحسد والحقد، وحتى عندما تنجح وتقترب أو تصل إلى مُبْتغاك، تبقى الأغلبية تُكِنُّ لك الحقد والحسد، ويبدأون بِاسترجاعِ تاريخ والديكَ وماضيهما أيام الشقاء والفقر، ويقارنون ماضيكَ المرير بما أنت عليه اليوم وما حققته من إنجاز على مستوى ذاتك ومهاراتك، وكذا وظيفتك وجاهك، حتى وإن كتمتَ أخبارك وإنجازاتك يتجسَّسُون عليك، ثم تصبح في حالة ترقُّبٍ واختباء من أعينهم حفاظًا لما حقَّقْته وعلى سلامتك النفسية أيضًا، وكأنك نقصت من رزقهم بعد الذي جنَيْتَه من اجتهادك وعملكَ طول السنين التي كافحت وعانيت خلالها، كما قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: “كلُّ الناس أستطيع أن أُرضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها”؛ ممَّا يعني أنهم يتمنون لك أن تبقى مثلهم ومثل أبنائهم دون أن تتقدَّم وتُطوِّر ذاتك وتُحقِّق أحلامك التي كنت تتمنَّاها منذ نعومة أظافرك.

 

في نظري، السبب الرئيسي وراء كلِّ هذا الحسد والحقد الدفين بين أهل القرى، راجع بالأساس إلى كونهم يتعارفون فيما بينهم نظرًا لقلَّتِهم، وأيضًا لقلة فرص العمل “الفراغ”، ومعرفة أحوال غيرهم بسهولة؛ مِمَّا يؤدي إلى كثرة التطفُّل وبحث بعضهم في أحوال بعض، ويتفننون في إصدار الأحكام حسب هواهم.

 

ولعلَّ وجه الضياع هنا أنَّ في أغلب القرى وإنْ لم أقل جميعهم، قد يفتقد المرء لمن يفهم علمه ومن يتدارسه، فغالبيتهم بعيدون جدًّا عن العلم وعن دروسه؛ ممَّا يُؤدي إلى انتشار الجهل بينهم، ويعيشون حياة البسطاء في أعمالهم وصنائعهم المرتبطة بالأرض فقط، على عكس أهل الحواضر والمدن فإنَّهم يهتمون بالعلم ويعطونه قدره الذي يستحق؛ لذا فإنَّ السكن في المدن بالأخص لطلبةِ العلمِ أفضلُ من الريف؛ حيث يجد فيه طالب العلم والمعلم من ينقل علومه ويدرسها، ويحفظها أيضًا بكل سهولة ويسر، بالموازاة مع كل هذا لا يجب أن ننسى مسقطَ رأسنا، وإنما المبتغى الابتعاد اليسير المرفقِ بالحنين إلى الأصل.

 

هذا شيء يسير من حقيقة تجربتي اليسيرة في القرية، الحقيقة أنها تجربة مُرَّة، ولو خُيِّرتُ في ذاك الوقت لاخترتُ أن أبتعد عنها قدر المستطاع؛ لأن عواقب تلك المرحلة ما زالت مؤثرة على مستواي الدراسي والعملي وشخصيتي وكذا صحتي النفسية رغم مرور وقتٍ طويل.

 

وفي خاتمة الحديث، أنا لا أعلم إن كانت وصية الإمام مالك هذه فعلًا صحيحة أم لا؛ ولكنَّ محتواها صحيح بشكل كبير حسب تجربتي المتواضِعة على الأقل.

 

وخلاصة القول، أنصح كل إخواني وأخواتي بألَّا يلتفتوا إلى كل شخص مُحبِط، وأن يواصل كلُّ شخص تعليمه وتطوير ذاته ولا يحمل همَّ المستقبل، بل دَعْه لمن خلقك وهو المُتكفِّل برزقك.

 

كما أريد أن أقول لكل من كان السبب في إحباط معنويات الطلاب، اتَّق الله في نفسك وحتى إن كانت نظرتك للحياة سوداوية، فلا تنشر سوادك بين الآخرين.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى