مقالات ثقافية

الشعر والنثر في ميزان النقد


الشعر والنثر في ميزان النقد

عَرَفَتِ الممارسة النقدية عبر التاريخ الشعري تطورًا كبيرًا؛ استجابةً للتحولات الفكرية والبنيوية العميقة التي شهِدها المجتمع العربي منذ قرون؛ فقد عرفنا تأسيسَ الدرس النقدي منذ العصر الجاهلي مع النابغة الذبياني، وهو يحكم الأبيات التي يُلقيها الشعراء المتوافدون عليه في القبة الحمراء التي كانت تُضرَب له، يجوِّد البيت ويحسِّنه أو ينقِّح معجمه، فيفاضل بين القول وغيره، رافعًا من شأن هذا، ومنزِّلًا من شأن ذاك، فكانت هذه الممارسة باكورة درسنا النقدي في شعرنا العربي، واستمر النقد في التطور مع العصور، فكلما نضِجت التجربة النقدية، واغتنت الممارسات الإبداعية سائرة في طريق التحول، كان لا بد للنقد من أن يساير وجهه المضاعف، مؤسسًا لأدواته النظرية والمنهجية؛ فظهرت كتب النقد الكبيرة كـ”الشعر والشعراء” لابن قتيبة، و”العمدة” لابن رشيق القيرواني، و”سر الصناعتين” لأبي هلال العسكري، واضعة بذلك أسسًا علمية للممارسة النقدية البنَّاءة، فتشكَّلَ درسٌ نقدي بُنِيَ على أسس علمية رصينة، اغتنت باختلاف الرُّؤى بين هؤلاء، فكانت المادة النقدية قادرة بأدواتها على محاورة النص على اختلاف تشكلاته البنيوية وجمالياته، فسار النقد العربي في خطٍّ موازٍ للخطاب الشعري، دون أن تحيد الممارسة النقدية عن النثر، وإن لم يأخذ حظًّا كبيرًا؛ بحكم طبيعة البيئة التي غلَّبت الشعر على النثر فهو ديوانها ولسانها، فكان لا بد للنقد من أن يميل أكثر إلى القصيدة، فظل النقد يراقب الشعر من كَثَبٍ، متجاوزًا حدودَ الأحكام والتعبير عن الأذواق، إلى دراسة البنية والتشكيل الشعري، والبلاغة والمعجم والأنحاء، وغيرها مما يشكل معمار النص ويقيم لَبِناتِه، حتى تلاقحت ثقافتنا العربية مع الغرب بعد ركود وجمود استمر طويلًا زمن الانحطاط؛ ليبدأ النقد في إيجاد طريقه من جديد نحو ممارسة نقدية فاعلة، تَمْتَحُ من أدوات نظرية ومنهجية لتطور الدرس النقدي الغربي، في ظل تطور نظرية اللغة والأدب عند الغربيين، بدءًا بما أرْسَتْهُ الشكلانية الروسية من أدوات وطرائق في الاشتغال على النص، وخاصة منه الحكاية الشعبية، وأقصد تحديدًا ما قدمه فلادمير بروب في مورفولوجية الخرافة سنة 1928 ليُفتح الباب على مصراعيه مع الشكلانيين والبنيويين، خاصة في الستينيات، مستفيدين من تطور الدرس اللساني والعلوم الإنسانية، بما فيها علم الاجتماع، والتحليل النفسي، والفلسفة، وغيرها، في إطار علمي ظهرت فيه العلوم متكاملة إلى حد كبير؛ مما سمح بتعدد وتولد الفروع المعرفية المختلفة من دوامة التيارات والمدارس ذات الأنساق المختلفة، فكان للماركسية والظاهراتية والشعرية تأثيرها الكبير في توجيه دفة الدرس النقدي، وشحنه بأدوات اشتغال جديدة، منها ما يقف عند حدود النص من حيث بنيته ونظامه، ومنها ما يُخرِجه من داخله في اتجاه التاريخية والمجتمعية والسياسية، كما ستلعب السيميولوجيا وجماليات التلقي دورَها الكبير في الممارسة النقدية؛ مما سيمنح النظرية النقدية غِناها وتنوعها الإبستمولوجي من حيث الأدوات والمنطلقات التي سيجد فيها الدرس النقدي كل الغِنى لتعدد الزوايا المعرفية.

 

لقد كانت النظرية النقدية مستجيبةً للتحولات الجَذْرِية التي مسَّت الحياة الأدبية، والشعر لم يكن بمأمنٍ عن هذا التحول، إن لم نَقُلْ: إنه شهد أكبر التحولات بإيقاع متسارع عقدًا بعد عقد خلال القرن العشرين، بعدما تهيأت له الطريق ليسلك مسارات جديدة في اتجاه التحديث الشعري، سائرًا نحو الشعر المرسَل والحر، ويصل في السبعينيات إلى قصيدة النثر، فمسَّ التحول مضمون القصيدة وشكلها معًا، وأما هذا التحول الجوهري فكان لا بد للنقد من أن يسير بخطًى حثيثة توازي ما عرا شعرَنا العربي، غير أنه حقيقة لم يستطع اللحاق به منذ الأربعينيات إلى حدود الوقت الراهن، ولعل هذا الركودَ النقدي، أو لِنَقُلْ بإنصاف كبير: هذا التباطؤ في الممارسة النقدية مرده إلى استحواذ النص النثري؛ كالقصة، والمسرح، وبشكل أخص الرواية التي طَفَتْ على السطح، وشكَّلت مادة دسِمة للناقد العربي؛ بما منحته من سهولة في التناول، غير محتاجة لأدوات منهجية دقيقة تكون فيها اللغة أداة معرقِلة لابتعادها في حدود كبيرة عن الشعرية، لا كالنص الشعري الزاخر بالانزياحات والانفلاتات والتَّشَظِّيات والبياضات؛ حيث بلاغة الصمت كائنة فيه، فالتحولات البنيوية العميقة التي مسَّت اللغة والإيقاع، والتصوير والدلالة، والمعنى والرؤية، وغيرها – شكَّلت عوامل رئيسية في عدم قدرة النقد على مواكبة النص ذي التحولات المتسارعة؛ مما جعل القبض عليه أمرًا يكاد يكون مستحيلًا، فوقف الناقد بعيدًا ينظر إلى الإيقاع السريع للتحول الشعري، مما جعله يصرف نظره عنه نحو النص النثري السهل والمنقاد للأدوات النقدية؛ بحكم تعدد الأبواب التي يمكن للناقد الدخولُ عبرها، وسبرُ أغوار النص النثري وخاصة الروائي منه؛ لذلك ظل النص الشعري متمنِّعًا بلُغته ورؤيته، وهو ما أطلق العِنان للتأويلية والتفكيكية للوصول إلى رقصة المعنى بلغة “ريفاتير”، هذا المعنى الذي يصير من الصعب الإمساك بتلابِيبِهِ؛ لأن النص يظل منفتحًا على التأويل، وطبيعة الشعر الميَّالة إلى المغايرة والاختلاف والمخالفة تجعله شديدَ التمنُّع على البَوح بما فيه، خاصة أنه يمتلك تاريخًا طويلًا على مستوى التشكل الفني تزيد عن ستة عشر قرنًا يمنحه قوة رهيبة، بخلاف القصة والمسرح والرواية المتسمة بالحداثة في البلاد العربية، مما يجعل الخطاب الشعري محمَّلًا بخلفيات معرفية متعددة المشارب، وبتراكمات تاريخية متنوعة المسالك، تمتد إلى أغوار تاريخية تشْحَن القصيدة، وتمنحها قوًى هائلة بها، تستعصي في كثير من الأحيان عن الانقياد للدرس النقدي.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى