مقالات ثقافية

يريد أن يكتب..


يريد أن يكتب..

 

في عقله فكرة، لكنه يجد نفسه وقتها غيرَ قادر على التعبير، أو مصروفًا عنه، لكنه يريد الكتابة؛ فيبدأ البحث في فضاءات البحث، فيجد قصاصة مكتوبة فيها كلام، هو ما كان يريد قوله تمامًا.

 

فكيف اهتدى لذلك؟!

وكيف لمن كتب قبله قد عبَّر بما في خاطره الآن؟!

 

إذًا؛ فنحن نجد أنفسنا أحيانًا، وفي مرات متعددة، في أشخاص غيرنا لا نعرفهم حقيقة، حتى لو قرأنا أسماءهم، نجدهم قد سبقونا للحديث، والتعبير عما في أنفسنا، وهذا سر من أسرار اختياراتنا، نختار لشاعر نقرأ له، أو كاتب تعجبنا كتاباته وتشُدُّنا.

 

تقرأ لشاعر فتجده يشدك بمعانيه وأفكاره؛ فتعجب منه، وتداوم على قراءة إنتاجه الشعري، مع أن هناك شاعرًا آخرَ مشهورًا قد بلغت شهرته الآفاق، وسارت بأبياته الرُّكبان، لكنه لا يعجبك، ولا يشدك، وإن قرأت له، فأنت تقرأ لأن بيتًا له مرَّ بك، أو قصيدة أُلقيت فسمعتها.

 

أو تجد نفسك تنقُل اقتباسات عن كاتب وجدتَ في كلماته ما تبحث عنه، ويعبر دائمًا عمَّا يدور في خَلَدِك ووجدانك، بينما هناك كاتب آخر يتهافت على كتاباته آخرون، ولكنك لا تعرف عنه سوى اسمه، أو النزر اليسير من كتاباته.

 

وهكذا هي حياة البشر منذ القدم.

 

شعراء أُعجبوا بشعراء؛ فاختاروا لهم، وضمنوا اختياراتهم في كتبهم؛ إعجابًا بقائليها وما قالوه، ونَأَوا عن شعراء كبار؛ لأنهم لم يميلوا إليهم، ولا إلى شعرهم، ونُقَّاد اختاروا كُتَّابًا فراحوا يكتبون عنهم، وعن جماليات أدبهم، ووضعوا أقلامهم؛ لئلا يكتبوا عن آخرين، وإن كتبوا فكتاباتهم نقدٌ قاسٍ، وهجوم شرس.

 

وهكذا نحن نبحث في هذه الحياة، ونفتِّش عمن يشبهنا في تفاصيل حياتنا؛ فرحيمٌ يعجبه الرحماء، وكريم يشده الكرماء، وشجاع يطرَب للشجعان، حتى الشخص الجافي الغليظ، تجده يميل لمن يشبهه في جفائه وغلظته، ولا تعجب إن عرَفت أن طه حسين كان يهاجم الكاتب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي الذي عُرف بمكانته الكبيرة في الكتابة، كما عُرف بإنسانيته، وتعاطفه مع الناس؛ حيث أخذ عليه طه حسين ذلك التعاطف الكبير مع البائسين؛ فوصفه بتكلُّف البؤس، وانتحال سوء الحال، والافتنان في الشكوى، والتظاهر بالتباكي في كتاباته عن الفقراء والمحتاجين.

 

في حين أن العقاد رأى أن ذلك لم يكن غريبًا، أو مبالغًا فيه عند المنفلوطي، بل إن هذا هو إحساس الرحماء الصادق أمام تلك الحاجات.

 

وزِدْ على هذا بأفضلَ منه؛ فنوحٌ عليه السلام قضى السنين الطوال يدعو قومه بحرص منه، وحزن على سوء مصيرهم، مع سخريتهم واستهزائهم به، ويوسفُ عليه السلام أسرَّ الألم في نفسه حتى لا يجرح إخوته، بينما كان موسى عليه السلام غاية في القوة، والقدرة على المواجهة، والتصدي للتحدي بصلابة وإصرار.

 

وتمضي بنا الحياة، ونحن في مَيل دائم إلى من يوافقنا في طِباعنا، وميولنا، واهتماماتنا، حتى في اختياراتنا، وسيأتي مِن بعدِنا مَن سيبحث عمن يعجبه، ويوافقه، وكأننا في هذه الحياة نسخٌ متكررة بعضنا من بعض، قد نضيف ونزيد، وقد نعجز ونقصُر، وبهذا عاش الإنسان مستأنسًا بالإنسان مثله يعيش معه، ولا غِنى له عنه.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى